سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : لا دفاع ولا هجوم .. حين يكون السَّلْم أعلى أشكال القوة
في اللغة، الدفاع هو دفع الشيء عن نفسك، وكأنك تقول: “أحمي حدودي من خطرٍ يقترب.” أما الهجوم، فمعناه البدء بالفعل أي المبادرة بالدفع قبل أن يُدفع بك.
كلا الكلمتين تنتميان إلى حركة واحدة: الدفع.. لكن الفرق أن الدفاع ينتظر، والهجوم يسبق.
لغويًا يبدوان ضدّين، لكن فلسفيًا هما وجهان لعملة واحدة. فكلاهما يصدر من مصدر واحد: الخوف. الخوف من الرفض، من الأذى، من الفقد، أو من فقدان السيطرة.. حين ندافع، نحاول أن نحمي الصورة التي نريد أن يراها الآخرون فينا.. وحين نهاجم، نحاول أن نسبق الخوف قبل أن يُكشف ضعفنا.. وفي الحالتين، نتحرك من ردّة فعل لا من وعي.
الصراع الإنساني الأبدي
الإنسان، منذ وجوده، يعيش في صراع داخلي دائم: هل أدافع؟ أم أهاجم؟ هل أحمي نفسي بالصمت؟ أم أسبق الآخر بالكلمة؟
هو صراع بين الخوف والرغبة في الأمان، بين الضعف والحاجة إلى القوة.. هذا الصراع لا يحدث فقط مع الآخرين، بل يبدأ من الداخل — بين “أنا” التي تخاف، و“أنا” التي تريد أن تثبت وجودها. نحارب أحيانًا ذواتنا قبل أن نحارب الآخرين. فنُبرّر، ونغضب، ونهاجم… وكل ذلك بحثًا عن سلامٍ لم نجده بعد.
مفارقة غريبة.. نحن نحارب لكي نصل إلى السلام، لكننا في الحقيقة نخسر السلام في طريق الحرب.
تجليات الدفاع والهجوم في حياتنا
هذه المعركة ليست مجرد فكرة فلسفية، بل هي واقع نعيشه كل يوم.
في حوار بسيط، قد تجد نفسك تبرر كل كلمة تقولها (“لم يكن قصدي، أنت فهمتني خطأ”)، هذا هو الدفاع… أو ربما تقاطع الآخر بحدة لتفرض رأيك قبل أن يكتمل كلامه، هذا هو الهجوم.
في علاقاتك، قد تبني جدارًا عاطفيًا، وتتجنب الانفتاح خوفًا من أن تُجرح مرة أخرى، هذا دفاع متخفٍ في ثوب الحذر.. أو قد تمارس الغيرة والسيطرة، محاولًا التحكم في الآخر قبل أن يبتعد، وهذا هجوم يغذيه الخوف من الفقد.
في بيئة العمل، قد تدافع عن فكرتك وكأنها جزء من هويتك، وترفض أي نقد لها.. أو قد تهاجم أفكار زملائك، ليس لأنها سيئة، بل لتشعر بالتفوق والأمان.
في كل هذه المواقف، نحن لا نتصرف بحرية، بل نستجيب لأشباح الماضي ومخاوف المستقبل.
حالة الدفاع: سجن التبرير
لغويًا: من “دفع”، أي ردّ الشيء عنك.
فلسفيًا: هي محاولة لحماية الذات من تهديدٍ حقيقي أو متخيّل.
نفسيًا: الدفاع هو صوت “الخوف النبيل” بداخلنا، الذي يقول: “لا تؤذِ نفسك.” لكن حين يتحوّل إلى تبرير دائم أو خوف مفرط من الخطأ، يصبح قيدًا يمنعنا من رؤية الحقيقة.. في حالة الدفاع، نعيش على استعداد دائم، نُجهّز الكلمات، الحجج، التفسيرات… كأننا في معركة لا تنتهي.. ومع مرور الوقت، لا ندافع عن ذواتنا فحسب، بل عن صورتنا عن أنفسنا، حتى لو لم تكن صادقة تمامًا.
حالة الهجوم: قناع القوة الزائف
لغويًا: من “هجم”، أي بدأ بالفعل أو اقتحم.
فلسفيًا: الهجوم هو دفاعٌ استباقيّ، محاولة للسيطرة على الخطر قبل أن يقترب.
نفسيًا: هو صوت الخوف المتخفي في ثوب القوة. نهاجم بالكلمات، بالسخرية، بالصمت البارد أحيانًا، كأننا نقول للآخر: “لن أسمح لك أن تقترب من ضعفي.” لكن في العمق، الهجوم لا يحمي، بل يعزلنا أكثر. يمنع التواصل، ويحوّل العلاقة إلى ساحة معركة بدل أن تكون مساحة أمان.
السَّلْم: الحالة الثالثة التي نتجاوزها
السَّلْم ليس غياب الدفاع أو الهجوم، بل هو تجاوزهما. هو حالة السكون الواعي… حيث لا حاجة لإثبات شيء، ولا خوف من الخسارة.
لغويًا: من “سَلِمَ”، أي نجا، ومن “أسلم”، أي سلّم نفسه للسلام.
فلسفيًا: هو طاقة الوعي التي لا تدفع ولا تهاجم، لأنها لا ترى خطرًا أصلًا.
نفسيًا: هو أن تكون في انسجام داخلي، أن تتصالح مع ضعفك وقوتك، مع حقيقتك دون أقنعة. في السَّلْم، لا تُسكت نفسك ولا تُبرّرها، بل تراها كما هي، وتختار أن تبقى متّزنًا. السَّلْم لا يعني الاستسلام، بل أن تعرف متى يكون الصمت وعيًا، ومتى تكون الكلمة حضورًا.
كيف نسكن حالة السَّلْم؟
الانتقال من حالة الحرب الداخلية إلى السَّلْم ليس تغييرًا يحدث بالقوة، بل هو تحول ينمو بالوعي.
- المراقبة دون حكم: الخطوة الأولى هي أن تراقب نفسك. لاحظ متى يرتفع صوت الدفاع في داخلك، ومتى تشعر برغبة في الهجوم. لا تلم نفسك، فقط راقب. هذا الوعي هو بداية التحرر.
- فن الصمت الواعي: قبل أن تندفع بالتبرير أو الهجوم، امنح نفسك لحظة صمت. هذا الصمت ليس ضعفًا، بل هو مساحة تتنفس فيها الحكمة. اسأل نفسك: “هل ردّي الآن نابع من وعي أم من خوف؟”
- التصالح مع النقص: القوة الحقيقية ليست في إخفاء ضعفك، بل في احتضانه. حين تتقبل أنك إنسان، تخطئ وتصيب، ولست بحاجة إلى أن تكون مثاليًا، يتلاشى الخوف الذي يجبرك على القتال. أنت كافٍ كما أنت.
ختاما
نحارب أحيانًا لنصنع السلام، لكننا لا ندرك أن السلام لا يُنتَزَع… بل يُسْكَن.
لا دفاع ولا هجوم، بل وعيٌ يرى دون خوف، وثقة بأن الحق لا يحتاج إلى ضجيج.. فالسَّلْم ليس نهاية الحرب، بل بدايتها الحقيقية… حين تبدأ من الداخل…
اقرأ أيضا
سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : الاحتواء بين الروح والحدود



