توبكُتّاب وآراء

الإعلامي العراقي حسين الذكر يكتب لـ «30 يوم» : رحلة مع مجنون !

لم تعد شخصية البهلول اقحام في التاريخ الاسلامي – كما يدعي البعض – أو هي مجرد صورة مبالغ فيها حسب عادة الرواة وتوظيف ما يتلون منه في كل ظرف وزمكان .. فقد شاهدت بالعين المجردة والملامسة الواقعية حالات جنونية ثبت أنها ادعائية أو مرحلية لعبور حالة ما على الصعيد الجمعي او كجراء فردي .. سيما في ظل واقع لم يكن هناك بد من تلبس جلباب الانفلات القيمي والسلوكي للتخلص من تبعات مسؤولية لم تعد قوى الشخص المدعي عليه تحمل مسؤولياتها .
( نحتاج بعض الجنون في الحياة .. فحياتنا العاقلة مملة ) فردريك نيتشه
هنا قد يتجمد العقل من هول مجرد التفكير وربما يقف القلب رعبا من تداعيات المنظر الذي يجبر فيه الانسان على ادعاء فقد صوابه للتهرب من تبعات ما .. فالجنون ليس حالة مرضية او صدمة نفسية كما يصفها المشخصين في جميع الحالات بعد ان اظهرت قسم منها قدرة عقلية فائقة لم تتسق مع المعروض الفكري للرقعة الجغرافية بما يسمى – بالعبقرية – او يرتقي المصاب فيها نحو مصاف عصية البلوغ .
العرب منذ قرون طويلة يشيدون ببعض حالات الجنون حتى قال شاعرهم : ( وما لذة العيش الا للمجانين ) .. ليس حسدا مما هم فيه بل احساسهم العابر لالم الواقع والمستغرق بخيالات عالم افتراضي بعيد عن شبحية الواقع .
لم افكر ولم يعتريني شك ما باني قد اصاب بهذا المرض جراء تركيز عقلي هوى نفسي التي ظلت على ذات الطريق تعبر عن قوى خارقة تعتريني كل حين حتى باقسى الظروف وبمعتركات الحياة مهولة الوقع التي يتمنى الانسان الاصابة او فقد بعض قدرات حواسه للتخلص من هول ما انزل به .
اجبرتني الظروف مرة على قضاء وقت امام مجموعة مجانيين او مرضى نفسيين وفقا لتسميات متاخرة فقد رافقت بسفرة ما بمصادفة مثيرة اسرة كاملة مصابة بالجنون مع ان افراداها المتشابهين لبسا واناقة لم يظهر عليهم ما يدل على ذلك .. سيما وان امهم كانت تواصل الحديث بشكل طبيعي حول اهوال العالم وفلسفة التاريخ ورؤيتها الخاصة بعدد من الملفات وقد ظلت مستمعة لحديثي ثم تحولت الى سائلة استغرقت وقت الرحلة وادخلتني بمحاور عديدة لم اكن اتوقع قدرة اجاباتي عليها لو لا مظاهر الارتياح ببعض الافكار التي اخذت تنساب بسرعة من عقل احسست قدرة عقله الباطن .
طول تلك الرحلة التي اظهرت فيها قدرة حوارية مع الرغبة المبطنة بالتخلص من ملل الوقت الا ان استماع اولادها بزيهم الموحد وصمتهم الطويل وربما اشتراك بعض المتجاورين لنا عبر استراق الكلمات اصغائيا ونباهة العيون هي من شجعني على التواصل ليس كمتخيل لكرسي الخطابة بقدر ما هالني ذلك الاصغاء والصمت الطويل من قبل اولادها وبعضهم قريبين من سني اذ بدو كانهم آلة صماء لا تجيد غير الاصغاء .
على حين غرة صحى الركاب على جلبة صوت مع يد مرفوعة تعلو بشاهقات وتنزل برشاقة وقوة لتصطاد خدي الذي تحمل صفعة خيالية لم تكن بالحسبان .. اذ تحرك احد اولادها بسرعة وعاد الى وضعه الطبيعي بعد ان نفذ تعاليم باطنية امرته بصفعي .. مع ان الضربة لم تكن مؤلمة من يد بريئة بيضاء ملساء الا ان المشهد برمته مع جلجلة خاطفة تصاعدت مع انفاس الضربة ثم خمدت كلها بلحظة طالني منها الدهشة والخجل اذ لم اعد قادر على مواصلة الكلام بعد ان فقدت الرغبة تحت اثر الحياء النفسي المعنوي .
اعتذرت الام بشدة وحرج مع انها لم تؤنب او توبخ او تضرب ابنها لكنها شرحت بصوت سمعه الاخرون : ان اولادها جميعا مرضى نفسيين وهي تعالجهم في مشفى كل اسبوع وهي في طريقها لتلقيهم العلاج .. كانت تتحدث وابنها تدمع عيناه كانه احس بشناعة فعلته وندم في دواخله لكنه لا يجيد فن المساومة ولا نفسه تتقبل اداء دور تمثيل الاعتذار .. فان صوت ما أمره بتنفيذ تلك الصفعة التي لم اجد تفسير واحد مبرر لما قام به او امر بتنفيذه .
صحيح ان الوقت اخذ يزف سريعا بل ينفلت من بين شفتي حتى بلعت لساني الطويل الذي كان يلوك يمينا ويسارا بخطبة عصماء لم احسب فيها مخاطر رجالات الامن المندسين حتى بين نسمات هواء القطار والزمكان .. لم التفت ولم انظر الى احد فقد اخذني الخجل وعدم ردت فعلي زادت طين بلة الانقباض النفسي الذي شعرت به .. كما اني احسست بان العالم كله حضر لمشاهدة نزال محطة ملاكمة واجهت فيها قبضات مجنون اعلن فوزه بالقاضية الصامتة ..
حينما نزل المسافرون لم ينظر الي احد كما اني لم استوعب نظرات اي منهم حيث كان وقع اللطمة مزلزل في اعماق كياني الذاتي معنويا مع اني لم ار لها اي اثر مادي في المكان المصفوع .. لكن ظلت تساؤلات محيرة تحيط فكري ونفسي ليس بما يخص رد الاعتبار او الزام لتعويض لاسرة لا تمتلك حتى دفع تكاليف اجرة القطار الزهيدة .. الا اني سرحت بجنبة اخرى من التفكير اخذتني لمراجعة ما كنت انوي ابوح به بزهو الخطبة العصماء وتفاعل الاخرين مما جعل السماء تتدخل لحمايتي واسكاتي من عبور بعض الخطوط الحمراء في اماكن عامة او ان شيطان مس كوامني الفحولية اتجاه محدثتي المكتنزة انثويا جعلني انتشي بردات فعلها وهي تغنى بكلماتي قائلة : ( انها لم تسمع مثلها من قبل) .. مع ان نواياي كانت سليمة بكل تفاصيل الرحلة والمحاضرة الطوعية .
فيما كنت ابحث عن تعليلا ما او بالاحرى اروض نفسي بتبرير بعضه مكنون او غريزي او جيني او كما كنت افعل كالنعامة ببعض مواقف ومحطات حياتية سابقة سيما في خيباتها التي لا اجد وسيلة وفلسفة افضل من محاولة ( النعامة) اذ كنت ادس وعيي في الحظيظ في ظل عدم القدرة على اطلاق التعابير الجريئة طوال تلك العقود وتتابع المشاهد ووقع الالم فقد كنت احدث نفسي : ( ان الحياة لا يمكن ان تسير على طول الخط وفقا للمنطق اذ لا بد من الخروج على النص وتمزيق جلباب الطاعة والانصياع حد الاحساس بشيء غريب وجنوح الخيال شريطة ان تكون قد اختزلت العالم بلحظة شاردة ) .
قبل الفراق جددت الام اعتذارها بشكل مباشر وبصوت مسموع هذه المرة حتى شعرت انها تريد ارضائي بكل الطرق الممكنة كجزء من تعويض ما كما انها اسرتني همسا جانبيا وكانها لا تريد اولادها يسمعون حينما قالت .. : ( انهم يأتمرون بما لا قدرة لي على صد التنفيذ لكنهم بالحقيقة يدركون اني امهم ولم يصيبوني بسوء ابدا) .
لم نودع بعضنا او نتبادل شيء تذكاري ما .. الا اني تذكرت كلمات قرأتها في بواكير الشباب للكاتب المفكر ايميل سيروان : ( لا يبلغ الجنون الا الثرثارون المفرغون من كل لغز او اولئك الذين اختزلوا من الالغاز الكثير ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى