دكتور حمادة شعبان يكتب .. حفلات التخرج بين الأمس واليوم
الاحتفالات هي تظاهرات إنسانية جماعية تُقام في مناسبات معينة تعبر عن الفرح والسعادة، وتعكس أفكار الشعوب والمجتمعات وخصوصياتها الثقافية.
والاحتفالات لها فلسفة عظيمة تتجلى في تجمع مجموعات بشرية في مناسبات معينة على إرادة واحدة هي الفرح والسعادة وتجديد النشاط وإصلاح النفوس تجاه بعضها بعض .. ومن ثم فإن جمال يوم الاحتفال كامن في معانيه وليس في اليوم ذاته، وكامن في دوره الاجتماعي الذي يجمع قلوب المجموعة على شعور واحد، وألسنتها على كلمة واحدة.
والاحتفالات على مر العصور قريبة من بعضها بعض من حيث مظاهر الفرح والشعور بالسعادة التي تتفاوت من احتفال لآخر ومن شخص لآخر. أما من حيث الطريقة والإسلوب فتختلف الاحتفالات من عصرٍ لعصر، ومن مجتمع لآخر وفقًا لعادات كل مجتمع وتقاليده، فالاحتفالات في المجتمعات الأوروبية تختلف عن نظائرها في المجتمعات العربية والإسلامية، والاحتفالات في الأوساط المتدينة تختلف عن احتفالات الأوساط المنفتحة، والاحتفالات في الأوساط الأكاديمية تختلف عن نظائرها في الأوساط الفنية .. وهكذا.
كما تختلف الاحتفالات في المجتمع الواحد من مناسبة لأخرى، فالاحتفال بالمولد النبوي الشريف على سبيل المثال يختلف عن الاحتفال بالزواج أو عيد الميلاد أو النجاح. فلكل مناسبة أدواتها بل وتعبيرات التهنئة الخاصة بها.
وقد دُرجنا في عصرنا الحديث على أنواع جديدة إيجابية من الاحتفالات، وهي الاحتفالات بالتخرج من الجامعة وإنهاء مرحلة تعليمية مهمة في حياة الإنسان يكتفي بها معظم الشباب، إلا هؤلاء الذين يهوون البحث العلمي ويستمرون في دراساتهم العليا.
وهذه الاحتفالات جزء من المجتمع الأكاديمي، ولها طقوس خاصة، وفقرات مرتبة يغلب عليها الطابع العلمي والأكاديمي، ومن ثم يرتدي الخريجون فيها الزي الأكاديمي المعروف، وتنقلها بعض البرامج التلفزيونية والإذاعية باعتبارها عرس ثقافي مهم يشجع الأسر وشبابها على طلب العلم والتفوق.
ولهذه الاحتفالات أهداف سامية مهمة، فهي تطلق روح الأسرة الواحدة بين مثلث العملية التعليمية المكون من ثلاثة أضلاع هي الخريجين وأسرهم وأعضاء هيئة التدريس، حيث يلتقون جميعًا في مناخ احتفالي ذو طبيعة خاصة يحيطه الفرح والاحترام وحفظ المقامات وتحكمه التقاليد الجامعية، في مشهدٍ ملهم للطلاب الذين لم يتخرجوا بعد، يحفزهم ويبعث فيهم روح الجد والاجتهاد من أجل الوصول إلى هذا اليوم المنتظر.
كما يُحتفى في حفلات التخرج الجامعي بأوائل الخريجين والحاصلين على مراتب الشرف، وتُسلم لهم الأوسمة والشهادات تكريمًا وتقديرًا لما بذلوه من جهد على طريق الاجتهاد والتفوق، في مشهد يحفز الطلاب الآخرين على الاجتهاد والتحصيل، وتنهمر على إثره دموع أولياء الأمور فرحًا، نتيجة الشعور بأن سعيهم من أجل أولادهم لم يذهب سُدى.
كما تحرص بعض الكليات أيضًا على جعل هذه الاحتفالات أشبه بملتقى توظيفي، فتدعو إليها رجال مالٍ وأعمال وأصحاب شركات ومصانع ومديري هيئات ومؤسسات تحتاج إلى تخصصات الخريجين، وتخصص فقرة من الحفل للحديث عن خريجيها وما يتسلحون به من علم ووعي ومعرفة وقوة في التخصص تجعلهم مؤهلين جيدًا لسوق العمل والنجاح فيه.
ولكن في السنوات الأخيرة ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وجدنا الطلاب في بعض الجامعات ينظمون لأنفسهم حفلات تخرج بعيدة عن التقاليد الجامعية، وقريبة من حفلات مطربي المهرجانات، تُغنى فيها أغنيات تتعارض مع الذوق العام، أغنيات ذات موسيقى صاخبة، تحتوي بعضها على أسماء مواد مخدرة وأسلحة بيضاء يعاقب القانون على اقتنائها. ونجد الطلاب والطالبات في الحفل يرددون هذه الأغنيات بانسيابية تدل على أنهم يحفظونها عن ظهر قلب، في مشهدٍ محزن لا يمت بصلة للمجتمع الجامعي.
وانتشرت هذه الاحتفالات انتشارًا ساحقًا وتناقلتها المواقع والحسابات مما ساهم في زيادة انتشارها، وأصبح بعضها يتصدر التريند، ويثير الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض.
ويُرجع بعض المثقفين هذا الاختلاف الكبير غير المتدرج بين احتفالات التخرج الحالية عن سابقتها إلى تغيير الأجيال واختلاف الذوق العام وانتشار ذوق فني يخاطب الجسد ولا يُخاطب القلب والروح، وضياع المعنى الحقيقي للاحتفال وفراغه من معناه.
ولذا فإننا نحتاج إلى وقفة مهمة مع طلابنا لتحليل هذه الظاهرة على أسس علمية، وليس بمعزلٍ عن القضية الأساسية، وهي قضية القيم واختلاف تصورات الأجيال حولها. كما ينبغي أن ندرك حاجتنا الماسة إلى معرفة المعنى الحقيقي للاحتفال وفهمه فهمًا يجدد في نفوسنا المعاني الحقيقية للفرح والسعادة. حفظ الله بلادنا وشبابنا من كل سوء.
كاتب المقال / مشرف وحدة رصد اللغة التركية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف