عادل القليعي يكتب.. التنوير والتجديد… وواقعنا المعاصر
لا شك أنّ واقعنا المعاصر الذي نحياه بكل قضاياه ومشكلاته ومستجدات ومتغيراته ،يحتاج منا أن تتضافر كل جهود أهل الفكر والمثقفين الخلص إلى إحداث صحوة فكرية وثقافية تحمل رؤى تجديدية ، ولن يتحقق ذلك إلا إذا حررنا عقولنا من كابوس التبعية البغيضة التى جثى عليها عقودا وأزمنة عديدة.
ومن ثم بات الأمر ملحا للتنوير ، ولن يكون هذا التنوير عن طريق التنصل من اصالتنا ، وإنما يكون من خلال توظيف موروثاتنا الثقافية عن طريق قراءة جديدة تنويرية تتواءم وتتماشي مع متغيرات العصر.
التنوير فى اللغة: مصدر نور، تنوير البيت بمصابيح ملونه أى إضاءته .
عمل على تنوير فكره جعله متنورا .
حركه التنوير قامت بأوروبا وتعتمد على فكرة التقدم وإعمال العقل في فهم واقع المجتمع والتخلى عن أفكار الماضى .
التنوير هو وقت إسفار الصبح.
أما فى الإصطلاح : فالتنوير حركة فلسفية بدأت فى القرن الثامن عشر، تتميز بفكرة التقدم و عدم الثقة بالتقاليد.
والتنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذى اقترفه فى حق نفسه وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر.
إذا التنوير هو إخراج الإنسان من حالة التقوقع حول ذاته وحول موروثه إلى الإنطلاق إلى عالم آخر ، عالم إعمال العقل عن طريق تفكير حر مستنير بعيد عن التبعية والتقليد الأعمى ، وإن كنت أرى أن ذلك محمودا شريطة ألا يخل بالثوابت ، بل وسيكون التنوير مجديا ومفيدا ومواكبا إذا ما وظفت العقول توظيفا صحيحا في إخراج الثابت من ثبوته لخدمة قضايانا المعاصرة والمعيشة وتلك دعوة أى مفكر حقيقي ، الحفاظ على الثوابت والحفاظ عليها لا يكون إلا بتجديدها عن طريق مد اليد إليها وإخراج ما في بطونها لخدمة الواقع.
أما أن يكون التنوير بهدم الثوابت والتخلي عنها وعدم توظيفها لخدمة قضايانا فهذا ليس تنويرا وإنما تضليل وتجهيل.
وردت كلمة النور في مواطن عدة في القرآن الكريم فنذكر على سبيل المثال قوله تعالى (الله نور السموات والأرض)
فالله هو نور السموات كل من في السموات يستمد نوره منه تعالى ، وكذلك كل من في الأرض يلتمس من نوره ، سواء النور الحسي أو النور المعنوي ، فالنور الحسي واضح بذاته ، أما النور المعنوي فهو الذي يقذفه الله على العقول فتستنير به ، والنور المعنوى وهو الذي يقذفه الله في قلوب العارفين به وله سبحانه وتعالى.
وكل ما خطر ببالنا عن حقيقة النور الإلهي وما سيخطر على بالنا فنوره تعالى خلاف ذلك ، ولكن هي أمثال يضربها الله تعالى للناس لتقريب المعنى للأذهان.
ووردت كلمة النور في قوله تعالى (لقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)، فالنور هنا نور محمد صلى الله عليه وسلم ، نور استضاءت به العقول فاستنارت به القلوب ، لماذا لإخراج الناس من ظلمات الكهوف إلى إشراقات نورانية ومعارف ربانية.
ومن مظاهر التنوير فى القرآن الكريم
رفض التبعية والتقليد الأعمى ، فقد دعانا الله تعالى إلى تكوين شخصياتنا الناقدة والمفكرة من أجل بناء شخصية ناقدة لا تسير كما يسير القطيع فقال تعالى (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون)
بل وشبه الذين ينقادون انقيادا أعمي ، شبههم بالأنعام (أولئك كالأنعام بل هم أضل)
ومن مظاهر التنوير في القران الكريم احتفاء القرآن الكريم بالعقل ودعوة الله تعالى لاعمال العقل في كل صغيرة وكبيرة عن طريق منهج الاعتبار (فاعتبروا يا أولي الألباب)، فالاعتبار منهج للحياة ، فالله تعالى لم يخلقنا للمأكل والمشرب فقط بل لكي نستبصر ونتأمل ونبحث وهذا روح التنوير.
كذلك ثم مظهر آخر من مظاهر احتفاء القرآن الكريم بالعقل أن صانه الله تعالى وحفظه من كل ما يخامره ويغيبه ، لماذا لأن في ذلك إهدار لهذه النعمة التي وهبنا الله إياها ، فحرم علينا تعاطي كل ما هو مخدر ومسكر.
أيضا من مظاهر الاحتفاء بالعقل الذي هو روح التنوير أن أمرنا الله بالبحث الفيزيقي والميتافيزيقي وهذا إثراء لروح البحث.
ومن مظاهر التنوير في القرآن الكريم ، تناول القرآن الكريم لقضايا الإنسان الوجودية كوجود الإنسان ولما خلقه الله وما حقيقة النفس الإنسانية وحقيقة البعث ، وحياة البرزخ ومآلاته بعد موته وحسابه ثوابا وعقابا.
وكذلك حريته الحقيقية الحرية المسؤولة ، لا الحرية المدعاة التي يفقد الإنسان قيمته معها بما هو إنسان ، حرية كفلها له الله تعالى حتى في الاعتقاد ، (فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر)، لكن يتحمل نتيجة اختياراته.
ومن مظاهر التنوير أيضا أن بعث الله الرسل والأنبياء ليخرجوا الناس من عبادة الناس والأحجار والأشجار والأبقار والنجوم والكواكب إلى رب كل هذه الأشياء ، عبادة الله الواحد القهار (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)
(ليخرجهم من الظلمات إلى النور)، ظلمات الجهل والتجهيل والظلام ، إلى النور العميم والخير الوفير.
وكذلك من مظاهر التنوير فى القرآن الكريم ، دعوة القرآن إلى العلم والتعلم والاحتفاء بالعلماء (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات)
(نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم)
فبالعلم والتنوير تبنى الأمم وتتفتح العقول المستغلقة والأذن الصم.
(إنما يخشى الله من عباده العلماء)، من هؤلاء هم ورثة الأنبياء.
(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)، سواء كان هذا العلم نظريا أو عمليا أو علوم شرعية.
إذا أردنا أن نتحدث عن هذا الموضوع فلن تكفينا مقالات ومقالات ، لكن في هذا الكفاية لمن سبقت له العناية.
لكل متفكر ومتدبر ومتأمل
وأختتم حديثي ، بما نوه إليه صديق مقرب إلى قلبي عندما قال لا يمكن أستاذنا العزيز أن نعقد مقارنة بين كتاب الله وما قاله الله تعالى وما نقوله نحن أو حتى الفلاسفة وقال تلك إذا قسمة ضيزي ، وقلت له أنتظر هداك الله.
وهذا ردي أولا ::صديقي العزيز ، نبدأ بقوله تعالى (ومن أصدق من الله قيلا)
(ومن أصدق من الله حديثا)
(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، لعل للتمني فإذا ما عقلناه وتعقلناه تنورنا واستنارت عقولنا.
هذه واحدة.
أما الثانية : فلا يمكن بحال من الأحوال المقارنة ولا حتى المقاربة بين ما يقوله الله تعالى وما نقوله نحن ، (وما هو بقول البشر)
وبما إنه ليس بقول البشر فلا ينطبق عليه ما ينطبق على قول البشري من التغيير والحذف والتبديل والنقاش ، وإنما واجبنا التسليم به مصداقا لقوله تعالى (يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحدا)
أما الثالثة: فمن أراد الدنيا مستنيرا فعليه بالقرآن ، ومن أراد الآخرة مستضيئا فعليه بالقرآن ومن أرادهما معا مسترشدا فعليه بالقرآن.
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.
اقرأ أيضا: