عادل القليعي يكتب .. جدلية العلاقة بين الأدب والفلسفة .. “حي بن يقظان نموذجا “
بداية نطرح عدة تساؤلات حول هذا الفيلسوف هل يجوز لنا أمان نطلق على ابن طفيل لقب رائد من رواد الإتجاه العقلاني في الفلسفة المغربية ؟!
هل يجوز لنا تلقيبه بالأديب المتفلسف، أم نلقبه بالفيلسوف الأديب ؟!
هل ترك ابن طفيل أثرا في من جاء بعده من فلاسفة المغرب؟
أين يمكننا وضعه على خارطة الفكر الفلسفي الإسلامي؟
كل هذه الطروحات سنجيب عليها من خلال مقالتنا هذه.
حري بنا أن نتعرف على هوية هذا الفيلسوف عن قرب.
أبو بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي، ولد في أوائل القرن الخامس الهجري_على أرجح الأقوال_٥٠٦ه_ ١١١٠م. في مدينة صغيرة من مدن إقليم غرناطة تسمى وادي آش.
كان مقربا للخليفة أبي يوسف يعقوب الملقب بالمنصور والذي كان محبا للعلم والفلسفة وأهلهما.
توفي في مدينة مراكش عام ٥٨١ه- ١١٨٥م.
ولابن طفيل مؤلفات كثيرة في الفلسفة الإلهية والطبيعية، والفلك، وله رسالة فى النفس ، ورسالتين فى الطب، إلا إنه لم يصلنا منها إلا رسالته الشهيرة حي بن يقظان التي ترجمت إلى لغات عديدة لما تحمله من فكر فلسفي موسوعي وفكر أدبي قصصي رمزي، يحمل في طياته مؤثرات دينية وفلسفية، سواء أثر إسلامي أو غير إسلامي، وكذلك لم تحمله هذه الرسالة من مؤثرات صوفية خصوصا فكرة الولاية وما يراه أصحاب الذوق والكشف والإلهام من مشاهدات ذوقية ترقى خلالها النفس وتحلق في عالم أفضل.
كذلك لما تحمله هذه القصة من آراء طبيعية وميتافيزيقية وأخلاقية..ولابن طفيل منهج فلسفي خاص به، لكن وعلى الرغم من خصوصيته إلا أنه كان متأثرا فيه بمن سبقوه سواء فلاسفة اليونان أو فلاسفة الإسلام خصوصا الفارابي وابن باجه.
حاول أن يقدم نسقا فلسفيا منظما يرتقي فيه من المحسوس (العالم الطبيعي) إلى المعقول المجردات (العالم الميتافيزيقي)، وهنا نلمح الأثر الإفلاطوني والإرتقاء صعودا عبر جدل صاعد من المحسوس استدلالا على العالم المعقول، لتصل من خلاله النفس إلى مشاهدة الحق والخير والجمال، ثم تعود هبوطا إلى الأرض محملة بجماليات وأخلاقيات وأدبيات العالم المفارق محاولة تطبيق ذلك على الواقع المعيش من خلال إعادة بناء منظومة أخلاقية منضبطة قائدها الحكمة العقلية التي من خلالها تضبط الشهوة والغضب.
ولكن هذه القوة العقلية على قدر أهميتها ومكانتها إلا إنها لا تستطيع أن تفي بالغرض المطلوب، فالعقل-على حد تعبير ابن طفيل-لا يستطيع أن يصل إلى كنه الحقيقية كاملة، ومن ثم وجدناه ولى وجهه وجهة أخرى فاتجه ناحية التصوف ، وهو بذلك خالف أستاذه ابن باجه الذي رفض الحدس القلبي طريقا للإدراك وإن كان لم يرفض الحدوسات على الإطلاق وإنما رفض حدوسات الغزالي القلبية، ولم يرفض الفيوضات الربانية على العقول.
عالج ابن طفيل في قصته حي بن يقظان كيف يمكن للإنسان أن يتصل بالعالم الآخر الماورائي، وكيف يتصل بالله تعالى، وإن كنت أرى- أنه ليس إتصالاً وإنما تواصلا فالإتصال انفتاح على العقول، أما التواصل فيكون انفتاح على الذوات وتعلق للقلوب برب القلوب.
فهل هذا الإنسان الذى وجد وحيدا منفردا لا يعرف العيش في جماعة، هل يستطيع دونما مؤثرات خارجية أن يصل إلى المعرفة من تلقاء نفسه، هل يستطيع أن يبحث هذا الكون الفسيح بعقله ويصل أم يضل ويشقى، هل يستطيع أن يتعرف على جميع الموجودات-لاحظ من أدناها إلى أرقاها، من محسوساتها إلى معقولاتها، بعقله دون معين؟!
ألف ابن طفيل هذه القصة عندما طلب منه أحد أصدقائه أن يطلعه على أسرار الحكمة المشرقية التي ذكرها ابن سينا، وأن يكشف له كيفية الوصول إلى العالم المفارق، وحال الكشف والذوق والوجد والإلهام إلى أن يصل السالكون إلى طور الولاية (ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون)، (إن وليي الله الذي نزل الكتاب)
ما أروع بلاغتك يا ابن طفيل، أنظروا:( فحال الناظرين الذين لم يصلوا إلى أطوار الولاية، حال الأعمى غير المبصر، وحال النظار الذين توصلوا إلي طور الولاية حال المبصر البصير)
ولشرح النص وتوضيحه وبيان أدبياته ومؤثراته، هب أن رجلا ولد في قرية أو مدينة أعمى غير مبصر لكنه بفطرته وممارسته أعتاد على فعل كل شيئ فاستطاع أن يتوائم مع بني جنسه واستطاع بخياله ومخيلته التعرف على الألوان وما شابه ذلك، لكن هل معارفه تكون كاملة، أم معارفه منقوصة، ثم حدث له أمر ما فابصر، هو علم الأشياء، لكن علمه لم يكن كاملا، ثم أبصر فرآى الأشياء رؤية واضحة أكثر، هكذا الإنسان في طريق معارفه لا ينبغي عليه أن يركن إلى الحواس وحدها ولا إلى العقل منفردا وإنما ثم طريق آخر يقود الإنسان إلى المعرفة اليقينية، هذا الطريق هو الحدس القلبي الوجداني الذوقي الكشفي، وهذا الطريق لا يتأتى للجميع وإنما لمن سلك المسالك والدروب الوعرة، حال الأعمى الذي يأتيه الأمل ببصيص من نور الأمل فيقوده إلى الطريق الصحيح، طريق الله تعالى.
ثمة روايتان في مسألة نشأة حي بن يقظان، الأولي رواية الزواج الطبيعي وأن شابا أحب فتاة فتزوجها سرا خشية بطش أخيها فانجب طفلا ووضعوه في تابوت وألقوه في اليم وتقاذفته الأمواج إلى أن وصل إلي شاطئ جزيرة_راجع قصة سيدنا موسى_ قياس مع الفارق،فالظبية التي اعتنت بحي أرأف وأرحم به من فرعون الذي قال ذروني أقتل موسى، فالحيوان أرحم بالإنسان من فرعون الطاغية المتكبر، فالظبية أرضعته وأخذته إلى أماكن الأشجار وموارد الماء، ثم بدأ يتعلم اللغة من سماع أصوات الحيوانات من حوله، ثم ماتت الظبية، وبدأت رائحتها تتغير، فيرى غرابا يحفر الأرض، فتعلم كيف يواريها التراب، نعم ما أروعك يا ابن طفيل في تعابيرك وصورك البلاغية المستقاة من القرآن الكريم، جامعا بين عقلانيتك وعقيدتك (فبعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه)، ثم بعد ذلك ينظر إلى حال الروح وحال النفس هل ستتجيف كالجسد أم ستصعد إلى عالم مفارق وهنا يبدأ في دراسة النفس وتعريفها وقواها وحدوثها وخلودها، والجزاء هل سيقع عليها منفردة أم سيقع عليها وعلى الجسد ثوابا وعقابا.
ثم الرواية الثانية، فكرة العناصر الأربعة، والتخمر الطبيعي وأن الأرض هي التى أنجبت هذا الصبي، نظرا لتخمر قطعة منها وبفضل العناصر الأربعة الماء، الهواء، النارخ، التراب، تولد هذا الطفل، أنظروا إلى خلق الإنسان (يا ايها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)عنصر الأرض، ثم الماء (وجعلنا من الماء كل شيئ حي)، ثم النار (والجآن خلقناه من نار السموم)، ثم الهوء (وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض)، وأثر هذه العناصر الأربعة في تكوين الإنسان في برودته ويبوسته، وحرارته، وليونته).
ثم من خلال نظر ابن طفيل للعالم حوله ورؤيته للظبية وهي تموت، علم أن لها عمرا وستفنى، وبنظره لكل الموجودات على الجزيرة وتغير الفصول الأربعة وتبدل أحوال الجزيرة أيقن عقلا أن هذا العالم حادث مخلوق وأن جميع الأجسام لها طرفان، أول وآخر، وأنها لا يمكنها أن تستمر إلى ما لا نهاية، فكرة التناهي، وأنه ليس ثم باق إلا الله الذى هو أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء.
كذلك من مطالعة فلسفة ابن طفيل نجده جمع بين دفتيها فكر المعتزلة من ناحية وفكر الأشاعرة من ناحية أخري
فنجده يعتنق فكر المعتزلة العقلاني في حديثهم عن صفات الله وعلاقتها بالذات، وأن صفاته عين ذاته.
كذلك نجده يميل إلى الأشعرية، في قولهم إن الله خلق كل شيئ لغاية مقصودة وهو العالم بكل شيئ (لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا في الأرض)
أما موقفه من النفس، فالنفس عنده خلاف الروح، وهي مبدأ الحياة مفرقا بين النفس والروح،فالنفس هي الذات الدراكة فى الإنسان وهي لا تبلى ببلاء الجسد، وهي خالدة لا تفسد، وهي لا تعرف السعادة بعد مفارقتها للبدنه ما لم تكن سعدت حال وجودها معه، وسعادتها في المشاهدة والكشف والإلهام.
أما في تقسيمه للنفوس فقد اقتفى الأثر الفارابي، فنفوس العاملة هي التى تسعد في الآخرة، أما النفوس الجاهلة، فلا يلحقها سعادة لأنها جهلتها فى الدنيا، أما نفوس الجمهور الذين تمسكوا بظاهر الشرع فأولئك لا ينالهم الأذى والشقاء وهم بمأمن من العذاب.
وهو بذلك نراه من أنصار البعث النفسي، اتضح لنا ذلك من خلال هذا التقسيم.
أما موقفه من الأخلاق فسلك مسلك أستاذه ابن باجه فيرى أن الأخلاق من حيز العقل لا من حيز الدين، ومن حيز الطبيعة لا من حيز الاجتماع، إلا أن ابن باجه لم يذكر فكرة الحيز الطبيعي، وإن كنا نرفض هذا الطرح من الإثنين، فلا يمكن بحال من الأحوال فصل الأخلاق عن الدين فما الضير أن نقيمها على الدين مسترشدين بالعقل قائدا وهاديا ولنا في فكرة الوسطية خير مثال ولو ناقشناها نقلا وعقلا سنجدهما على توافق.
وكذلك كيف يرفض أن تكون الأخلاق مكتسبة والإنسان مدني بطبعه ينفر من العزلة ويحب العيش في جماعة.
نعم نحن بحاجة ماسة إلى فكر هذا الفيلسوف الأديب والأديب الفيلسوف، نحتاج من يفكر تفكيرا عقلانيا في كل قضايانا المستحدثة، ويعالجها معالجة عقلية في صورة قصة أدبية تجذب القارئ وفي نفس الوقت تطرح قضية من قضايا المجتمع، بدلا مما نراه من تدن قيمي في الكتابة وتفاهة في العرض والطرح وإسفاف وابتذال في المعالجة-الا من رحم ربي- فهناك أدباء رائعين مهمومين بقضايا الأمة العربية وبلدنا الحبيب ولنا في كتابات الأديب محمد الشرقاوي، العبرات والعظات، وكذلك في كتاب محمد هلال الأديب المبدع الذي يحمل ما يحمله من عمق فلسفي، وكذلك كتابات الأديب ياسر عبد الرحمن الأديب والشاعر والمفكر المهموم بقضايانا الحياتية المعيشية.
ما أحوجنا إلى قصاصين يحملون فكرا فلسفيا خصبا أمثال السيد رشاد البري.
ما أحوجنا إلى أدباء وكتاب مقالات تحمل ما تحمله من الفكر الحر الواعي المستنير ككتابات، عبد المحسن سلامة ، محمد حسين أبو الحسن ، عادل صبري ، أحمد سيد أحمد من الأهرام ، ومحمد الأبنودي ، طارق عبدالله من عقيدتي ، أيمن عبد المجيد من روزاليوسف ، وغيرهم كثير.
نعم ما أحوجنا إلى فكر هؤلاء الأدباء حتى نرقى ونرتقي.
نعم نحن بحاجة إلى أدباء فلاسفة، وفلاسفة أدباء.
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.