قال تعالى في سورة يس:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس: 78)
يقول العلامة الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي:
تحدَّثنا عن ضرب المثل وقُلْنا: الضرب إيقاع جسم على جسم بعنف، ويُشترط فيه أن يكون الضاربُ أقوى من المضروب، وإلا كانت النتيجة عكسية، ومن ذلك قول الرافعي رحمه الله:
أيَا هَازِئاً مِنْ صُرُوفِ القَدَرِ بِنْفسِكَ تَعْنُفُ لاَ بالقَدَرْ
وَيَا ضَارِباً صَخْرةً بِالعَصَا ضَرَبْتَ العَصَا أَمْ ضَرَبْتَ الحَجَرْ؟
كذلك ضَرْب المثل هو إيجاد شيء يُوقع على شيء، ليبين لك الأثر الحاسم الفعَّال، فحين تشكّ مثلاً في شيء يُوضِّحه لك بمثَلٍ لا تشك فيه، فيُقرِّبه إلى ذهنك، ومن ذلك قوله تعالى لما أراد أنْ يُوضِّح لنا بطلان الشرك، والفرق بينه وبين التوحيد، قال سبحانه: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29].
نعم، لا يستوي عبد يتنازعه عدة أسياد، وعبد مِلْك لسيد واحد، كذلك لا يستوي التوحيد والشرك.
نسي خلقه
فقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } [يس: 78] أي: أُبيّ بن خلف، والمثل الذي ضربه أنْ أخذ عَظْماً قد بَلِي، وراح يُفتِّته أمام رسول الله وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك سيحيي هذا، بعد أن صار إلى ما ترى؟ وإنْ كانت الآيات نزلت في أُبيٍّ، إلا أنها لا تقتصر عليه، إنما تشمل كل مُكذِّب بالبعث، مُنكر لهذه القضية.
ومعنى { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [يس: 78] يعني: لو تذكَّر خَلْقه هو، وتأمل في ذات نفسه وجد الدليل على ما يُكذِّب به؛ لأن الله خلقك من العدم، فصار لك وجود، فإذا مِتَّ بقيتْ منك هذه البقايا التي تُفتِّتها منثورة في الأرض، ومعلوم بحسب ما تفهمه العقول أن الإيجاد من موجود أهون من الإيجاد من العدم { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
الحق سبحانه في هذه الآية يخاطبنا على قَدْر عقولنا ووَفق منطقنا، وإلاَّ فلا يُقال في حقه تعالى هَيِّن وأهون، ولا سهل وأسهل، هذا يُقال في حق البشر فحسب.
وقوله: { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] حينما ألقى هذا السؤال على الكافرين المكذِّبين بالبعث يقولون: لا أحد يستطيع أنْ يُحيي الموتى، لماذا؟ لأنه يقيس المسألة على عَجْز القدرة في البشر، لا على طلاقة القدرة في الخالق سبحانه.
الخالق سبحانه وتعالى يثبت للإنسان صفة الخلق .. كيف؟
كيف يثبت الخالق صفة الخلق للإنسان؟
1- التدليل في النفس والكون (آية الأنفس والآفاق):
في الأنفس: دعوة الإنسان للتفكر في نفسه (من قطرة ماء إلى إنسان مكتمل)، فيجد آيات الربوبية وقدرة الله على التدبير والتكوين، كما في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.
في الآفاق: عجائب الكون وتناغمه، التي تدل على خالق عليم وحكيم مبدع، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
2- الهداية والتقدير (إعطاء كل شيء خلقه):
الله هو الذي يعطي كل مخلوق خلقه (شكله ووظيفته) ويُهدي كل شيء لما يصلح له (الطير إلى عشه، الإنسان إلى معاشه)، وهذا إثبات لقدرته وإتقانه، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
3- التعليم والإبداع المحدود:
{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم}. الخالق يعلم الإنسان ما لم يكن يعلمه، فيمنحه القدرة على التعلم والاكتشاف والصناعة (الفن، العلوم، الاختراعات)، وهي قدرة مستمدة من الخالق الأصلي، لكنها تبقى قدرة محدودة ومُعطاة.
4- الفرق بين الخلق والإبداع:
صفة “الخالق” لله مطلقة (الإيجاد من العدم والابتكار) {الخَلَّاقُ}، بينما الإنسان يخلق (يصنع، يبدع) بقدرة مُعطاة ووفق قوانين، وهو ليس خالقاً بالمعنى المطلق الذي يوجِد من العدم، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
بالمجمل، يثبت الخالق صفة الخلق في الإنسان من خلال إظهار عظمته في خلقه وإبداعه الكوني، ومنح الإنسان قدرات إبداعية جزئية وهداية ليستدل بها على الخالق الأكبر، ليُدرك الإنسان أنه مجرد مخلوق وقدرته محدودة مهما وصل لسقف بعينه في ملكوت خالق عظيم.
الخالق يثبت صفة الخلق للإنسان عبر إظهار قدرته في خلق الإنسان نفسه (من العدم إلى الوجود، والتطور في الرحم) وخلق الكون ومن فيه، مما يدل على التدبير الإلهي، وأيضاً من خلال إلهام الإنسان وتقديره (التعلم، الهداية، إعطاء كل شيء خلقه وتقديره) ليصبح لديه قدرة محدودة على الإبداع، لكن الإبداع المطلق والخلق الحقيقي لله وحده، فـ (الإنسان يكتشف ويتعلم ويصنع، أما الخالق فيبدع ويوجد من العدم).
والعجيب أن الله تعالى يُثبت للإنسان صفة الخَلْق، فيقول: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] والإنسان ينكر ويُكذِّب بقدرة الله في الخَلْق، فإذا كان ربك لم يَضِنّ عليك بأنك خالق، فلا تضنّ عليه بأنه أحسن الخالقين.
ليس كمثله شيء
وقلنا: إذا وجدتَ صفة لله تعالى ووصف بها البشر فلا بُدَّ أنْ تأخذها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فلله تعالى وجه لا كالأوجه، وله سبحانه يد لكن ليستْ كالأيدي.. وهكذا؛ لأن الله تعالى واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله.الله موجود وأنت موجود، لكن وجودك ليس كوجوده، الله غني وأنت غني، لكن غِنَاك ليس كغِنَى الله، غَنِى الله ذاتيٌّ لا ينفصل عنه سبحانه، أما غناك فموهوب.
الله خالق وأنت خالق، لكن فَرْقٌ بين خَلْقك وخَلْق الله، خَلْقك من موجود وخَلْقه تعالى من عدم، خَلْقك جامد لا حياة فيه، وخَلْق الله في حياة فينمو ويتغذى ويتكاثر.. الخ فأنت خالق، لكن ربك سبحانه أحسن الخالقين.
إذن: لله تعالى صفات الكمال المطلق، يُفيض منها على خَلْقه فيعطيهم من صفاته تعالى، لكن تظل له سبحانه طلاقة القدرة.
ومعنى { رَمِيمٌ } [يس: 78] قديمة بالية تتفتت.
ثم يردُّ الحق سبحانه على هذا المكذِّب وأمثاله: { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79].
ومعنى { أَنشَأَهَآ } يعني: من العدم، ولأنْ ينشئها من موجود أَوْلَى، وقوله { أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] في الرد على هذا المكذِّب يوحي بأن هناك مرة أخرى، وإحياءً آخر غير الأول { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79] أي: بالخَلْق الأول وبالخَلْق الثاني، فالعلم بالخَلْق الأول أنْ يعطيه صفات ومواهبَ في ذاته، وأنْ يستعمره في الأرض، وأن يجعلَ له منهجاً ينظم حياته فيها.
وبهذا المنهج أرشده إلى سبيل الخير، وحذَّره من سبُل الشر، وأوضح له الجزاء على هذا وذاك، وهو سبحانه عليم بالخَلْق الآخر في الآخرة.. أي: يعلم كيف يجازيه على ما قدَّم. إذن: معنى { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79] يعني: عليم كيف يُكلِّفه، وعليك كيف يجازيه، وعلى قَدْر التكليف يكون الجزاء.
الفلاسفة المسلمون أحبوا أنْ يوضحوا لنا هذا المعنى، فقالوا: حينما أراد الله أن يخلق من العدم وقبل أنْ توجد السماء أو الأرض قال: اخرجى يا سماء كوني سماءً فكانت، وهكذا الأرض. إذن: قادريته سبحانه هي التي فعلت، ومقدورية الأشياء هي التي انفعلت، فما الذي انتهى من هذين العنصرين؟ إنهما باقيتان موجودتان: قادرية الفاعل سبحانه، ومقدورية الأشياء….
اقرأ أيضا
نسائم الجمعة .. سر تسمية يوم الجمعة بهذا الإسم .. ولماذا ذُكر مع السبت في القرآن الكريم




