توبكُتّاب وآراء

سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : مسخ بجدارة

فقدان الهوية والسيطرة على النفس الكلمة “مسخ” أصلها عربي، ومعناها التحوّل إلى شكل مشوّه أو غريب، سواء جسديًا، روحيًا، أو أخلاقيًا.

في القرآن، تُستخدم للإشارة إلى العقاب الذي يُحوّل الإنسان أو الكائن إلى شيء مختلف عن طبيعته. أما في الاستخدام المعاصر، فهي تصف شخصًا فقد صفاته وقيمه، أو أصبح فاقدًا للوعي الذاتي، مجرد صدى لما يريده الآخرون، بلا إرادة، بلا اختيار، بلا “أنا”. أحيانًا أبسط سؤال يمكن أن نسأله لأنفسنا:

“مين أنا؟”، لكنه يتحول لسؤال أعمق: “هل أنا اخترت نسختي… أم صُبّت عليّ؟”. بمعنى آخر، هل أنا فعلاً أنا، أم مجرد انعكاس لما يفرضه المجتمع أو المحيطون؟ هذا السؤال يكشف الفرق بين الحرية الداخلية وبين الاستسلام للصورة المفروضة علينا. فقدان الهوية والسيطرة على النفس المسخ بجدارة ليس مجرد فقدان شكل الإنسان، بل فقدان الحرية في أن يكون نفسه. مثال واقعي:

رجل نشأ في بيئة صارمة تُربّيه على “الرجولة المطلقة”، لكنه في داخله ضعيف ومربك، لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره الحقيقية. فيظهر غضبًا وعقابًا على أي كلمة تُقال له، بدل أن يكون حضورًا واعيًا وحقيقيًا.

هذا الغضب ليس قوة، بل مسخ للرجولة، تحويلها إلى صراخ وعقاب بدلاً من وعي وحزم. مثال آخر: امرأة تربت في بيئة تقليدية تمنعها من اتخاذ أي قرار، فتخضع تمامًا للآخرين، وتفقد إرادتها الداخلية. تصبح غير قادرة على تعليم أطفالها معنى القوة والمسؤولية، فينشأ الجيل القادم متبعًا بلا وعي، يكرر نفس المسخ. الانصهار في “نحن” المسخ يظهر حين يصبح الإنسان غير قادر على التمييز بين ما يريده هو وما يريده الآخرون.

كل قرار أو شعور يتم التحكم فيه من الخارج، وكل فعل يصبح نسخة من رغبات الآخرين. في الحياة اليومية، يمكن ملاحظة المسخ في عدة مواقف: الموظف الذي يوافق على كل قرار حتى لو خالف قناعاته، خوفًا من النقد أو فقدان الوظيفة. الشخص الذي يعيش حياته وفق توقعات المجتمع، ولا يعرف متى يقول “لا” أو “هذا أنا”. الأب الذي يفرض رأيه على أبنائه بلا نقاش، ويمنعهم من التفكير الحر، فينشأ جيل من النسخ الممسوخة. المسخ النفسي ليس سهلًا على من يعيشونه، لكنه يبدو طبيعيًا لهم.

غالبًا يظن الشخص أن حياته “طبيعية”، وأنه جزء من المجتمع، بينما في الواقع فقد القدرة على اختيار نفسه والتصرف بناءً على إرادته. أثر المسخ على الأسرة والمجتمع المسخ لا يضر الإنسان وحده، بل يمتد تأثيره إلى الأجيال القادمة. الآباء والأمهات الممسوخون ينقلون ضعف الإرادة والهوية إلى أطفالهم، فينشأ جيل بلا تفكير نقدي، يعيش بلا وعي، ويكرر دورة فقدان الهوية والقيم. يتحول المجتمع تدريجيًا إلى بيئة تُكرّر المسخ، حيث تختفي القوة والوعي والاختيار الحر، وتصبح حياة الأفراد مجرد صدى لما يفرضه الآخرون.

كيف نتجنب المسخ لكي نتخلص من صفة “المسخ”، يجب علينا أن نفهم ونتعلم: نقرأ، نحلّل، ونربط الأحداث ونراها من جميع الزوايا. نفتح آفاق عقولنا، ونتأمل، لأن الله بعثنا لنفكر لا لنتبع ونقول “طبعا” و”صحيح” بدون وعي.

نميز بين ما هو إرادتنا وما هو إرادة الآخرين، ونتدرب على قول “لا” أو رفض ما يخالف قيمنا ومبادئنا. نمارس حرية الاختيار تدريجيًا، ونعلم أولادنا معنى التفكير المستقل، كي لا تنتقل صفات المسخ إلى الأجيال القادمة.

الخلاصة المسخ بجدارة هو فقدان الإنسان لجوهره وذاته: فقدان حريته، فقدان إرادته، فقدان صفاته الأساسية، وتحويله إلى نسخة بلا شكل، بلا معنى، مجرد صدى لما يريده الآخرون. الوعي بالذات، تمسك الإنسان برأيه وإرادته، وفهمه لما يفرضه عليه المحيطون، هو الخطوة الأولى لتجنب أن يصبح مسخًا، أول خطوة لحياة حقيقية وواعية، ولجيل قادم يعرف قيمته ويختار لنفسه.

اقرأ أيضا

سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : بداية الحقيقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى