فال كيلمر .. ممثل أمريكي مات صامتا وظل روحاً لاتعرف اليأس

جاء وفاة الممثل الأمريكي فال كيلمر غامضا مثلما كانت حياته وكممثل صعد بسرعة الصاروخ إلى قمة الشهرة والنجاح، ومن ثم انطفأ نجمه بالسرعة نفسها.

وعرف كيلمر كأحد أكثر شخصيات هوليود غموضًا وجاذبية، إذ كان ممثلا من الطراز الأرفع، وتمتع بمظهرٍ أنيق وروح متمردة.

ولد فال إدوارد كيلمر في 31 ديسمبر 1959 في لوس أنجلوس بكاليفورنيا، وانجذب إلى عالم التمثيل منذ صغره، وساعده على ذلك نشأته في عائلة تقدر الإبداع، لكنها اتسمت أيضا بعدم الاستقرار.

كان والده، يوجين كيلمر، موزعا لمعدات الطيران ومطورا عقاريا، بينما كانت والدته، جلاديس سوانيت، متدينة للغاية ومن أصل سويدي.

انفصل الزوجان عندما كان فال في التاسعة من عمره فقط – وهو حدثٌ شكّل حياته وترك أثرًا غائرا، وشكّل الشخصية الكئيبة والمحطمة عاطفيًا التي جسدها فيما بعد.

كان لدى كيلمر شقيقان: ويسلي ومارك.. وتوفي ويسلي في سن الخامسة عشرة بسبب مضاعفات الصرع، وهي خسارة أثرت بشدة على فال وعززت حساسيته تجاه هشاشة الحياة، وظهر في جميع عروضه.

التحق فال بمدرسة هوليود الاحترافية ، وبات أصغر طالب يقبل في قسم الدراما بمدرسة جوليارد المرموقة في سن السابعة عشرة.

ظهر كيلمر لأول مرة في السينما عام 1984 في الفيلم الكوميدي الساخر “سري للغاية”  حيث فاجأ الجمهور بحسه الكوميدي ومواهبه الموسيقية.

لكن فيلم “توب جان”  عام 1986 هو ما دفعه نحو النجومية، وعبر شخصية الطيار المقاتل “آيس مان” المتغطرس والبارد، أصبح كيلمر رمزًا للثقافة الشعبية، إذ لم تقل جاذبيته في كل مشهد بالعمل عن النجم توم كروز.

وخلال السنوات التالية، أثبت كيلمر وجوده كواحدٍ من أكثر الممثلين تنوعًا في أدوارهم في التسعينيات، فمن تجسيده لشخصية جيم موريسون في فيلم “الأبواب” 1991 (The Doors) وهو دور استعد له بشغف شديد، ثم انتقل إلى تجسيد دور تاجر السلاح دوك هوليداي في فيلم “تومبستون” 1993 (Tombstone)، وأشاد النقاد بأدائه لدور موريسون وتصويره لشخصية هوليداي.

ومع بداية عام 1995 انتقل فال كيلمر إلى مرحلة جديدة تماما في حياته المهنية، حيث دخل كيلمر عالم الأبطال الخارقين، في فيلم “باتمان للأبد” (Batman Forever)، الذي أخرجه جويل شوماخر، وشكل انطلاقة من عالم الأبطال الخارقين المظلم الذي بناه تيم بيرتون مع مايكل كيتون.

كان باتمان كيلمر كئيبًا ولكنه أنيق، معقد نفسيًا ولكنه رزين.

باتمان .. والتميز

جاء اختيار فال كيلمر لدور باتمان بمثابة انتصار ونقطة تحول في مسيرته الفنية، وخلفًا لمايكل كيتون، قدّم كيلمر أحد أشهر أدوار هوليوود في ذروة شهرته، بفكه المنحوت، وعينيه الحادتين، وحضوره الهادئ والغامض، بدا كيلمر مُناسبًا للدور، وأضفى على شخصية بروس واين تعقيدًا نفسيًا وهدوءا وتأملًا يفوق سابقيه.

كان كيلمر يعتقد أن الدور يقيد قدرته على التفاعل العاطفي والأداء الحي، لذلك عندما عُرضت عليه فرصة العودة إلى باتمان وروبن، رفض، ليس رفضا للشخصية، بل رغبةً منه في التركيز على أدوار أكثر تعبيرًا وتحديًا.

ورغم استمراره في أداء أدوار بارزة في أفلام مثل “الحرارة” 1995(Heat)، مع آل باتشينو وروبرت دي نيرو، و”القديس” 1997(The Saint)، إلا أن أخبار سلوكياته الصعبة في موقع التصوير بدأت تطغى على مسيرته المهنية، وعرف بصعوبة أسلوبه، وصرامة قراراته، وعدم استعداده للتنازل عن قراراته الإبداعية، لذلك بدأ المخرجون والاستوديوهات ينظرون إليه على أنه مصدر خطر، ما أدى إلى تراجع عروض الأفلام الكبرى.

وتزامنت هذه الفترة أيضًا مع تراجع في ايرادات شباك التذاكر لبعض أعماله، ومنها فيلم “جزيرة الدكتور مورو” 1996(The Island of Dr. Moreau)، الذي عانى من فوضى إنتاجية.

في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كاد كيلمر أن يختفي عن الأضواء، ولم يعلم محبوه إلا لاحقًا بمعركته مع سرطان الحنجرة، الذي أبقاه سرًا في البداية.

تسبب المرض في تغيير صوته بشكل كبير نتيجة عملية ثقب القصبة الهوائية، وتأثرت قدرة فال كيلمر على الكلام، وظنّ الكثيرون أن مسيرته الفنية قد انتهت.

خالف كيلمر كل التوقعات، وذلك حين أصدر الفيلم الوثائقي “فال” (Val) في عام 2021، والذي احتوى على لقطات منزلية صوّرها على مدار عقود طوال حياته ومسيرته الفنية.

قدّم الفيلم صورة مؤثرة وحميمة لفنان عاش حياته بشروطه الخاصة، بعيوبه، وعبقرتيه، وعمق إنسانيته، فتأثر النقاد والجمهور على حد سواء بصدق الفيلم وهشاشته.

كان الممثل الهوليودي قد رزق بطفلين، هما جاك ومرسيدس من الممثلة جوان والي، التي التقى بها في موقع تصوير فيلم “ويلو” 1988(Willow)، وطلقا عام 1996، لكن كيلمر ظلّ قريبا من أبنائه.

في السنوات الأخيرة، انخرط كلاهما في مجالات إبداعية: جاك كممثل، ومرسيدس كممثلة وعارضة أزياء.

ولعب جاك ومرسيدس أدوارا محورية في الفيلم الوثائقي “فال”، حيث كانا سندا عاطفيا لوالدهما ضد وحش سرطان الحنجرة الذي التهم جسده وسعادته.

روح لاتعرف اليأس

ثم جاء فيلم “توب جان: مافريك” 2022 (Top Gun: Maverick)، حيث أعاد كيلمر تمثيل دور “آيس مان” في مشهد مؤثر أمام توم كروز.

ورغم قدرته المحدودة على الكلام، إلا أن الجاذبية العاطفية لحضوره جعلت المشاهدين يذرفون الدموع، حيث كان الفيلم تذكيرًا قويًا بفنان لم يكف عن النضال من أجل صوته، حتى عندما سُلب منه.

لم تكن رحلة فال كيلمر مجرد مشوار لنجم هوليودي، بل كانت نضالا لروح لا تعرف اليأس، وتسعى وراء الفن بشغف لا نظير له، ويمثل كيلمر اليوم رمزا للنجاح الخاطف، ودرسا عن الثمن الباهظ للهوس الإبداعي. ومع ذلك، ورغم المرض، ورفض الوسط الفني، والتحول الشخصي، بقي كما كان دائمًا، ممثلًا لا يخشى المخاطرة، ولا يهاب الحقيقة.