يوسف عبداللطيف يكتب لـ «30 يوم» : حين تتحول الخيانة إلى حق مزعوم وشر مُباح

لا شيء يُثير الغثيان أكثر من مشهد اللص وهو يرتدي قناع البراءة، يمشي بيننا متخفيًا في ثياب القرابة أو الصداقة أو حتى الرعاية، بينما يخطط بهدوء لنهب من آمن به وأحسن الظن فيه. نحن لا نتحدث عن سرقة عابرة في شارع جانبي، بل عن عملية سطو ثقيلة الوطأة، اخترقت خصوصية سيدة بحجم وقيمة الدكتورة نوال الدجوي، امرأة قضت عمرها في بناء مؤسسة علمية تخرج منها الآلاف، لتجد نفسها ضحية خيانة أقرب ما تكون إلى الطعنة في الظهر.
لكن دعونا نترك العاطفة جانبًا، ونسأل السؤال الأكثر استفزازًا: ما الذي يدفع إنسانًا لأن يسرق بهذه الدقة، من غير كسر، بلا عنف، وباحتراف ناعم لا يترك خلفه أثرًا؟ ماذا يدور في عقل سارق حين يقرر أن ما يملكه غيره هو من حقه؟ ما الذي يجعل الضمير يتكلس إلى الحد الذي يدفع شخصًا ما للسطو على خزائن مغلقة، وتغيير شفراتها وكأنها لعبة أطفال؟
أكتب اليوم لا لأنني أعني بالقضية ذاتها فقط، بل لأن هذه الجريمة تفتح نافذة مظلمة على تركيبة عقل المجرم المعاصر، ذاك الذي يرتكب جرائمه داخل جدران البيوت، مستغلًا الثقة والعلاقات والدم أحيانًا. لم تعد السرقة مجرد انحراف فردي ناتج عن الفقر أو الحاجة، بل أصبحت في بعض الحالات مزيجًا من الطمع والشعور بالاستحقاق الزائف – اعتقاد جارف بأن كل شيء متاح، وأن الغير لا يستحق ما يملك.
الحرامي الذي اقتحم خزائن نوال الدجوي، لم يقتحمها بقضيب حديدي، بل بخطة ووقت وصبر. لم يدخل ليأخذ ما يسد جوعه، بل استولى على ثروة لا تُختصر في بضعة ملايين، بل في مجوهرات وقيم ورموز وذكريات وكرامة. هذا النوع من اللصوصية لا يُولد من فقر، بل من انعدام تام للأخلاق.
ومصدر الخطورة هنا ليس فقط في الجريمة، بل في التواطؤ المجتمعي الصامت معها. كم من لص يعيش بيننا، نعرفه ونبتسم له ونخجل من مواجهته؟ كم من حكاية مثل حكاية فيلا نوال الدجوي تدفن في صمت لأن المجرم “قريب” أو “صديق”؟ نحن نعيش في مجتمعات تخاف من الفضيحة أكثر من خوفها من الجريمة، ولهذا يواصل اللصوص عربدتهم بلا خوف من عقاب أو حساب.
إن التحريات التي تُشير إلى غياب أي عنف أو كسر في الخزائن ليست مجرد معلومة تقنية، بل جملة تفضح كمًّا هائلًا من الخيانة، وتكشف عقلية مجرم يرتدي قناع الألفة، يدخل البيت من بابه، ويخرج حاملًا الكنز كما لو كان هديته الشخصية.
وهنا بيت القصيد: الدافع لم يكن المال فقط. السارق أراد أن يوجه صفعة معنوية لمن سرقها. أن يُشعرها بأنها محاصرة حتى داخل أملاكها. أن يقول لها، دون أن ينطق: “أنا أقوى منك، أنا أقرب مما تظنين، أنا داخل حدودك وأنت لا تملكين شيئًا حقًا”. هذه ليست سرقة فقط، بل استعراض قذر للسيطرة.
نوال الدجوي ليست مجرد سيدة ثرية سُرقت، هي رمز لنجاح المرأة المصرية، لجهد سنوات في تأسيس تعليم خاص حقيقي. سرقتها بهذا الشكل هي رسالة مشوهة تُقال لكل امرأة ناجحة: احذري، فالنجاح لا يحميك من أن تكوني هدفًا.
ما يُثير غضبي، أكثر من تفاصيل السرقة، هو الصمت والتواطؤ المحتمل، والمجتمع الذي ما زال يقبل أن يُغسل وجه الخيانة بالماء والصابون العائلي. أي مجتمع هذا الذي لا يرى في هذا النوع من الجرائم كارثة أخلاقية يجب أن تُفضح وتُواجه وتُجتث من جذورها؟
ما حدث في فيلا نوال الدجوي ليس حادثًا عابرًا، بل مرآة سوداء، عاكسة لواقع متآكل تسوده شفرات الطمع والخداع. نحن بحاجة لمواجهة هذا الواقع بعيون مفتوحة، لا تخشى الحقيقة، ولا تجامل على حساب العدالة.
إن الجريمة ليست فقط في الاستيلاء على المال، بل في كسر الأمان، في خيانة الثقة، في اغتيال السكينة. كل من سكت، وموّه، ودار حول الحقيقة، هو شريك أصيل في هذه الجريمة. كل من عرف وسكت، هو جزء من الكارثة.
لن تقوم لنا قائمة ما لم نصارح أنفسنا، ما لم نُسمِّ الأشياء بأسمائها، ما لم نُعلن أن الحرامي، ولو كان من الدم واللحم، هو حرامي. وأن العدالة لا تعرف العائلة، ولا تحابي العلاقات.
لا يكفي أن ننتظر نتائج التحقيق، ولا أن نتابع الأخبار في صمت. بل يجب أن نُصرخ عاليًا: هذا عبث لن نمرره. وهذا خراب لا يمكن أن يُبرر.
لقد سُرقت نوال الدجوي في الفيلا، لكن ما سُرق أبعد من المال: سُرقت فكرة الأمان في بيتك، فكرة أن التعب يُثمر حماية، أن الثقة تُكافأ بالولاء.
ولذلك أكتب، لا لأنني غاضب فقط، بل لأنني أرى في هذه الحكاية إنذارًا يجب أن نهتم به قبل أن تُفتح خزانة كل بيت في هذا البلد على ذات المصير.
اقرأ أيضا
يوسف عبداللطيف يكتب : العيون الساهرة تضحي لأجل الوطن وتؤمن الجبهة الداخلية بكل حزم