توبكُتّاب وآراء

منار زاهر تكتب لـ «30 يوم» : دروز سوريا .. وفخ الحماية الإسرائيلية

صحيح أن من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه، لكن هذه القاعدة البديهية تنهار حينما يتعلق الأمر بإسرائيل .. انخدعت الإدارة السورية المؤقتة حينما بادرت، فور توليها مقاليد الحكم، بتقديم رسائل مطمئنة إلى الجانب الإسرائيلي؛ لاعبة في ذلك على وترين، أحدهما استرضاء إسرائيل والآخر نيل استحسان الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الذي يضع الشرع وحكومته تحت مجهر حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات وعدم تهديد أمن الجوار نظرا للخلفية التاريخية لتلك الحكومة وفلسفتها العقائدية التي يُتخوف من أن تصبح هي المرجعية الحاكمة في سوريا.

دأبت دمشق في إرسال بادرات إيجابية تجاه تل أبيب ضمن تصريحات مسؤوليها الكبار بأن سوريا لن تصبح منصة لهجمات إرهابية على إسرائيل ثم نضجت أطوار التصريحات لتذهب إلى الانفتاح على التطبيع مع إسرائيل في الوقت المناسب، وقد شهد اجتماع بين مدير الموساد ديفيد برنيع بالرئيس السوري نقاشا حول اتفاق تهدئة بين الجانبين دعا إليه المبعوث الأمريكي لسوريا يحمل اسم “عدم الاعتداء” والذي قد يقود إلى تطبيع بين دمشق وتل أبيب في نهاية المطاف.

لكن الذي حصل أن اليد الإسرائيلية التي مُدت للتهدئة مع سوريا كانت أشبه بخدعة بصرية أزاغت أعين الحكومة عن حقيقة أن إسرائيل ستبقى كما هي بلا عهد ولا ميثاق، فمنذ سقوط الأسد شنت إسرائيل أكثر من 400 غارة جوية على مناطق متفرقة في سوريا، وبسطت سيطرتها على مناطق متعددة في جنوب سوريا متجاوزة المنطقة العازلة ونزعت اتفاقية فض الاشتباك الذي يعود عمرها إلى أكثر من 50 عاما، ثم نجحت بغاراتها الجوية في تدمير نحو 80% من البنية التحتية العسكرية التابعة للنظام البائد بحجة عدم استخدامها لشن هجمات ضد إسرائيل من قبل قوات النظام الحالي أو فلول النظام السابق أو حتى فصائل أخرى مسلحة، وحينما انتهت الحجة بنجاح الهدف بحثت إسرائيل عن مبرر آخر يشرعن قصفها على دولة ذات سيادة، فكان الدروز.

الثغرة التي تدخلت من خلالها إسرائيل بحجة جديدة إلى سوريا، طائفة دينية وأقلية قومية تعدادها نحو 700 ألف درزي، يتمركزون في جنوب سوريا ويتخذون من محافظة السويداء مقرا رئيسيا لهم مع انتشار طفيف في مناطق أخرى محيطة. هذه الطائفة كغيرها من الأقليات التي أبدت تخوفا وحذرا منذ وصول الشرع إلى الحكم، وبدا في نظرهم “أبو محمد الجولاني” القائد والمؤسس لهيئة تحرير الشام والمنتمي من قبل إلى تنظيمي داعش والقاعدة، وقد أعلنوا تخوفاتهم من الاضطهاد والإقصاء لكن ثمة تطمينات بعثها الشرع لتلك الأقليات، انتهت إلى الذوبان في دماء القتلى من الدروز وقوات الأمن وعناصر أخرى.

تنشب اشتباكات من حين إلى حين بين الدروز وقوات الأمن السوري، لكن ثمة شرر صغير يأخذ انعطافة كبيرة في وتيرة الأحداث، مثلا مجموعة من البدو يختطفون درزيا سوريا في السويداء، فتشتعل اشتباكات بين عشائر البدو والدروز ثم مواجهات بين قوات الأمن والدروز ثم تقحم إسرائيل نفسها بغارات جوية تتعدى محافظة السويداء لتطال القصر الرئاسي وتدمر هيئة الأركان السورية ثم تنتهي بعدها حصيلة القتلى إلى نحو 300 شخص، وهذه ليست المرة الأولى التي يحصل فيها ذلك، فقد اشتعلت مواجهات منذ شهرين بين الدروز وقوات الأمن في منطقتي جرمانا وصحنايا على خلفية انتشار تسجيل صوتي لدرزي يسئ للرسول الكريم وقد أسفرت الاشتباكات في مجملها عن وقوع أكثر من 100 قتيل.

حماية الدروز ذريعة إسرائيل للتدخل في سوريا، الخطاب القومي الذي تشعله إسرائيل بهدف تأليب دروز سوريا لإشعال الداخل السوري وإشعال فتيل أزمة داخلية يدعمها دروز إسرائيل الذين أفسحت لهم إسرائيل المجال لعبور السياج الحدودي نحو الجنوب السوري تضامنا مع أولئك الذين يرتبطون معهم في المرجعية والفكر والدم كما يعتبر نتنياهو.

توالت تصريحات المسؤوليين الإسرائيليين بدءا من نتنياهو الذي توعد بحماية الدروز وفق مبدأ “عهد الدم” وطالب بإخلاء الجنوب السوري، ثم صرح وزير الدفاع الإسرائيلي بأن إسرائيل ستصعد الرد ضد سوريا إذا استدعى الأمر ذلك، وأن إسرائيل ملتزمة بنزع السلاح من مناطق الجنوب السوري. تريد إسرائيل مناطق القنيطرة ودرعا والسويداء خالية من قوات مسلحة سورية وجعلها منطقة عازلة منزوعة السلاح، أولا لتأمين حدودها الشمالية، وثانيا لدعم إقامة حكم ذاتي للدروز في تلك المنطقة، وربما المضي بعد ذلك نحو إقامة دولة درزية مستقلة، وهي خطة تعود إلى عام 1967. توظف إسرائيل ورقة الدروز ضد الحكومة السورية وكلما تصاعدت التوترات بين النظام السوري الحالي والطائفة الدرزية تصاعد حنقهم على تلك الحكومة وارتفعت الأصوات المطالبة بالتدخل الإسرائيلي، تماما كما فعل الزعيم الروحي لدروز سوريا وطالب إسرائيل بالتدخل، والتدخل الإسرائيلي أتي عبر القصف وعبر تغذية ذلك الصراع الطائفي، وهذا ما يخدم مصلحة تل أبيب.

منذ اللحظة الأولى لسقوط بشار الأسد في الـ8 من ديسمبر الماضي، وإسرائيل استغلت ذلك الفراغ والانشغال العام بالزحف نحو مناطق في السيطرة على مناطق في الجنوب السوري، ووصلت إلى أبعد من نقطة جبل الشيخ.

الآن يبدو أن هذه فرصة إسرائيل المفتوحة لإثبات يدها العليا في سوريا، لربما أكثر حتى من تركيا التي تدعم النظام السوري الجديد، بما أن الأكراد باتوا أقرب إلى المصالحة مع تركيا، وبما أن قوات سوريا الديمقراطية تدور في فلك محادثات مع الإدارة السورية لانضمام مقاتليها إلى صفوف الجيش، وبما أن الإدارة الأمريكية رفعت العقوبات عن سوريا، وتدرس رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وبينما أبدا الغرب لهجة تصالحية مع الإدارة السورية الجديدة، كانت هذه المؤشرات التصالحية مقلقة لإسرائيل فاتجهت نحو إرباك حسابات الداخل السوري بتغذية الصراع الطائفي لمصلحتين: إبقاء سوريا مقسمة وربما فيدرالية وغير مركزية الحكم، والتقسيم دائما يخدم أجندة إسرائيل وتعرف كيف تستثمره لصالحها، ثانيا تأمين مصالحها الأمنية والاستراتيجية، والتي تكمن في جنوب منزوع السلاح وذي حكم ذاتي وربما إقامة دولة درزية تسهل تنفيذ مشروع “ممر داود” وهو ممر اقتصادي بالدرجة الأولى يبدأ من الجولان مرورا بمحافظات القنيطرة ودرعا والسويداء ووصولا إلى معبر البوكمال الحدودي بين سوريا والعراق، هذا سيناريو، السيناريو الآخر قد تنتهي إسرائيل إلى النجاح في جنوب سوري منزوع السلاح وقد تتفاوض مع الحكومة السورية على إعطاء الدروز حكم ذاتي، وبعد سيطرتها على مناطق واسعة في الجنوب السوري تتفاوض على الانسحاب منها بما لا يخل بالهدف الاستراتيجي بالبقاء على جبل الشيخ لتصبح مراقبا ذا قبضة استخبارية على كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين.

ورغم مخاوف الدروز من تصاعد الخطاب الطائفي وتفاقم العنصرية والاضطهاد ضدهم كأقليات إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن إسرائيل هي التي ستحميهم، بل هي من يستثمر مخاوفهم لتحقيق مصالحها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى