د. أمل رمزي تكتب لـ «30 يوم» : صفقة بحجم وطن
لم تكن الصفقة التى وُقِعت بين مصر وشركة الديار القطرية مجرد اتفاق اقتصادى عابر، بل لحظة فاصلة فى مسار العلاقات الاستثمارية بين القاهرة والمنطقة الخليجية، ونقطة تحول حقيقية فى رؤية الدولة المصرية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية طويلة الأمد،فنحن أمام مشروع يتجاوز كونه صفقة عقارية إلى كونه إشارة سياسية واقتصادية عميقة المعنى، تُعيد تموضع مصر على خريطة الاستثمار الإقليمى والعالمى.
فالاستثمار الذى تبلغ قيمته الإجمالية نحو 29.7 مليار دولار، تتضمن دفعة نقدية فورية تصل إلى 3.5 مليار دولار خلال العام المقبل، ليس مجرد رقم فى ميزان الاقتصاد بل شهادة ثقة دولية فى قدرة الدولة المصرية على التعافى والعبور من الأزمة إلى النمو، فى وقت تواجه فيه البلاد ضغوطا على العملة وميزان المدفوعات، تأتى هذه الصفقة لتمنح الأسواق جرعة ثقة قوية وتُرسل رسالة واضحة بأن مصر ما زالت وجهة جاذبة للاستثمار فى منطقة تموج بالاضطرابات.
أهمية الصفقة لا تكمن فى حجمها المالى فحسب، بل فى مضمونها الاستراتيجى فالمشروع الذى ستنفذه شركة «الديار القطرية» فى منطقة علم الروم والسملا شرق مرسى مطروح، باستثمارات مبدئية تُقدر بـ 4 مليارات دولار، ليس مجرد منتجع فاخر جديد، بل مدينة سياحية متكاملة تمتد على نحو 60 ألف فدان، تفتح الباب أمام تحوّل شامل فى مفهوم التنمية الساحلية فى مصر.
هذا المشروع يُتوقع أن يخلق أكثر من 100 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة ويرفع العائدات السياحية بالعملة الصعبة ويُعيد رسم خريطة الساحل الشمالى من مجرد مصيف موسمى إلى مقصد عالمى للسياحة والاستثمار، والأهم من ذلك أنه يُضيف إلى الاقتصاد الوطنى موردا مستداما لا يتوقف عند حدود الصفقة، بل يمتد أثره لسنوات من النشاط الاقتصادى المتواصل.
تأتى الصفقة فى لحظة يحتاج فيها الاقتصاد المصرى إلى تدفقات نقدية حقيقية بالعملة الأجنبية، لا على شكل قروض أو منح مؤقتة، بل استثمارات إنتاجية تولّد عائدًا مستمرا. فدخول 3.5 مليار دولار كدفعة فورية من الصفقة يُسهم فى تعزيز الاحتياطى النقدى، واستقرار سوق الصرف، وتقليل الحاجة إلى الاقتراض الخارجى، هذه السيولة تمنح الحكومة والبنك المركزى مساحة تنفس أوسع لإدارة التحديات الاقتصادية وتُعيد التوازن إلى العرض والطلب فى سوق العملة الأجنبية.
ومن زاوية أوسع تُسهم الصفقة فى خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلى الإجمالى عبر تحفيز النمو دون زيادة الأعباء التمويلية وهذا التحول من الاقتراض إلى الاستثمار المباشر هو ما يمنح الصفقة قيمتها الحقيقية ويجعلها خطوة إستراتيجية فى مسار خفض الدين وبناء الثقة.
لا يمكن فصل هذه الصفقة عن السياق الإقليمى الأوسع فعودة الاستثمارات القطرية بهذا الحجم إلى السوق المصرية بعد سنوات من الفتور السياسى تُعد مؤشرا قويا على استعادة الثقة بين القاهرة ودول الخليج، وهى فى الوقت ذاته رسالة بأن مصر لم تعد تبحث عن دعم بل عن شراكات اقتصادية حقيقية قائمة على المصالح المتبادلة.
وكما فعلت الإمارات بصفقة «رأس الحكمة»، فإن قطر تسير فى الاتجاه ذاته من خلال «علم الروم»، فى إشارة إلى رهان خليجى متجدد على الاقتصاد المصرى باعتباره مركزا استثماريا واعدا فى الشرق الأوسط، هذا الرهان لا يأتى من فراغ بل هو ثمرة سنوات من الإصلاحات الجريئة التى أعادت ضبط السياسات المالية والنقدية، وفتحت الباب أمام تطوير البنية التشريعية للاستثمار، وجعلت مصر قادرة على استقبال مشروعات عملاقة من هذا النوع بثقة وكفاءة.
ومع كل هذه الإيجابيات يبقى التحدى الأهم هو تحويل هذه الصفقات الكبرى من مجرد عقود ضخمة إلى مشروعات منتجة ذات أثر واقعى على الاقتصاد والمجتمع فالقيمة الحقيقية لأى استثمار لا تُقاس بحجم الأموال المعلنة بل بما يولده من إنتاج وفرص عمل وتنمية مستدامة يشعر بها المواطن الذى تحمل الكثير كى يبنى وطنه.
د. أمل رمزي تكتب لـ «30 يوم» : أمن السودان أمان مصر .. ومن يعبث بالوطن سيكتوي بالنار




