خالد إدريس يكتب لـ «30 يوم» : الحنين إلى الورق في زمن الشاشات
فى عصرٍ تُقاس فيه القيمة بعدد المشاهدات لا بعمق الفكرة أو جدواها، لم نعد نقرأ، وأضحى الأدب الورقى يقف كجندى عجوزٍ فى معركةٍ غير متكافئة أمام جيوش الشاشات المزودة بأحدث الأسلحة التكنولوجية.
فبينما تتسارع الخُطى نحو «الرقمنة» باعتبارها رمزًا للتقدم، يتوارى الكتاب خلف الشاشات بعيدًا عن أضوائها، كأنه بقايا من زمنٍ مضى، أو كموضة قديمة علينا الابتعاد عنها حتى لا تطالنا وصمات التخلف.
لم يعد القارئ يبحث عن المتعة فى الغوص بين الصفحات، بل عن الخفة والسرعة والاختصار. أصبحت القراءة فعلًا كائنًا مقطوع الأنفاس، يلهث إذا أُجبر على قراءة صفحات ورقية، ولا يدرى أنه بإدمان تلك الشاشات، لا يستفيد إلا دقائق ترفيهية مشوهة أشبه بمن يشاهد عملا دراميا فتعكر الإعلانات صفوه ومزاجه، وتقضى على فكرة قبل أن تكتمل. فمع كل تمريرةٍ على الشاشة، تُمحى طبقة من الوعى العميق، ويتلاشى ذلك الحضور الذهنى الذى كانت تمنحه لحظة القراءة الورقية الصافية.
الكتاب الورقى لم يعد مجرد وسيلةٍ للمعرفة، بل أصبح يجسد مقاومة ثقافية فى مواجهة التفاهة المعلّبة التى تنتجها ثقافة المحتوى السريع. إنه يواجه زمن «الوجبات الفكرية السريعة» بثبات الورق، ورائحة الحبر، ودفء اللمس الإنسانى. فالقراءة الورقية ليست موضة أو عادةً قديمة كما يظن البعض، بل طقس من طقوس التأمل، ومساحة لاستعادة الهدوء الداخلى وسط فوضى الضوء الأزرق التى تخطف الروح قبل العين.
لم يسلم حتى الأدباء من طوفان الشاشات، إذ تحوّل الكاتب إلى «مؤثر رقمى» يُسوّق لكتبه بلقطاتٍ مصوّرة و«ريلز» معدّة بعناية، فى محاولةٍ يائسة لاقتناص انتباهٍ لا يدوم أكثر من ثلاث ثوانٍ.
صارت الكلمة تُقاس بعدد الإعجابات، لا بوقعها فى الوعى، وتحوّل المعنى إلى سلعةٍ تخضع لخوارزميات السوق الثقافى الجديد.
ومع ذلك، ما زال هناك أولئك الذين يفتحون كتبهم الورقية كما لو أنهم يفتحون نوافذ الروح.
هؤلاء الذين يلمسون الصفحة كمن يلمس ذاكرةً حيّة، ويعرفون أن رائحة الورق ليست حنينًا فقط، بل هوية فكرية وإنسانية لا يمكن استبدالها.
الأدب لا يموت، لأنه ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل حالة إنسانية عميقة لا تبرمجها الخوارزميات. كل كتابٍ يُقرأ على الورق هو اعتراض ضد ثقافة الزيف والتفاهة، وكل قارئٍ يختار الورق فى زمن الشاشات هو مقاتل صامت وفارس مغوار فى معركة الكلمة ضد الفراغ والهوى.
قد تخفت أضواء الشاشات أو تصمت فجأة عندما تحتاج لطاقة، وقد تحتاج لإعادة التشغيل إذا أثارتها كثرة الاستخدام أو كم الأوامر فتعاقبك بالتوقف عن التخزين وفقد بيانات، لكن الورق – كالحقيقة الراسخة – لا يزول.
لأن سطحه لا يعكس ضوءًا يسر الناظرين، بل يُضىء من الداخل فتصبح أنواره روحًا تضىء النفس وتهديها السكينة والطمأنينة وتلك أسمى أمانينا.
Khalededrees2020@gmail.com
اقرأ أيضا
خالد إدريس يكتب لـ «30 يوم» : استغلوا الشخصية المصرية المتفردة



