الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم» : وهم أم سعادة التقسيط
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وترتفع فيه الأسعار بشكل غير مسبوق، أصبح التقسيط ليس مجرد خيار مالي، بل ضرورة اقتصادية تفرض نفسها على شريحة واسعة من المجتمع. فمع تصاعد تكلفة المعيشة وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وجد الناس أنفسهم أمام معادلة صعبة: إما التخلي عن احتياجاتهم الضرورية، وإما اللجوء إلى نظام التقسيط الذي بات نافذة أمل للكثيرين.
التقسيط.. الحل أم المشكلة؟
يبدو التقسيط للوهلة الأولى حلاً سحرياً يتيح للأسر الحصول على ما تحتاجه دون استنزاف مدخراتها دفعة واحدة. فبدلاً من دفع مبلغ كبير مقدماً لشراء سيارة أو أثاث المنزل أو حتى الأجهزة الإلكترونية، يمكن توزيع التكلفة على أشهر أو سنوات، مما يخفف العبء المالي الفوري.
لكن هذه الصورة الوردية تخفي خلفها حقائق أكثر تعقيداً. فالتقسيط ليس منحة مجانية، بل هو التزام مالي طويل الأمد يأتي عادة محملاً بفوائد وأعباء إضافية قد تصل في بعض الأحيان إلى ضعف السعر الأصلي للسلعة.
الفوائد الحقيقية للتقسيط
لا يمكن إنكار أن للتقسيط فوائد ملموسة عندما يُستخدم بحكمة وتخطيط. فهو يتيح للأسر ذات الدخل المحدود الحصول على احتياجات أساسية لا يمكن تأجيلها، مثل العلاج الطبي أو إصلاح المنزل أو شراء وسيلة نقل ضرورية للعمل.
كما يساعد التقسيط الشباب على بناء حياتهم، حيث يمكنهم تأثيث منازلهم أو الحصول على تعليم متقدم دون انتظار سنوات لتجميع المبلغ المطلوب. وفي بعض الحالات، يُعد التقسيط وسيلة لبناء سجل ائتماني جيد يساعد على الحصول على قروض مستقبلية بشروط أفضل.
مخاطر التعثر وشبح المديونية
لكن الجانب المظلم للتقسيط يظهر عندما يتجاوز الناس قدرتهم على السداد. فالإغراءات التسويقية التي تروّج للتقسيط بعبارات مثل “ادفع الآن واستمتع فوراً” أو “أقساط مريحة بدون فوائد” تدفع الكثيرين إلى الاستدانة دون حساب دقيق لميزانيتهم الفعلية.
والنتيجة؟ يجد الناس أنفسهم مثقلين بأقساط شهرية متعددة تلتهم نسبة كبيرة من دخلهم، مما يؤدي إلى دوامة من التعثر المالي. فالتأخر في سداد قسط واحد قد يؤدي إلى غرامات تراكمية وفوائد إضافية، بل وقد يصل الأمر إلى المساءلة القانونية أو حجز الممتلكات.
المغالاة في التقسيط.. ثقافة استهلاكية خطيرة
الأخطر من ذلك هو تحول التقسيط من أداة مالية للضرورة إلى نمط حياة استهلاكي. فقد أصبح البعض يقسّط كل شيء، حتى الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها أو تأجيلها. الهاتف الذكي الأحدث، والسفر السياحي، وحتى الملابس الفاخرة، كلها أصبحت متاحة بالتقسيط، مما يخلق وهماً بالقدرة الشرائية غير الحقيقية.
هذه الثقافة الاستهلاكية تخلق جيلاً يعيش فوق إمكانياته، جيلاً لا يدّخر ولا يخطط للمستقبل، بل يعيش لحظته بأموال لم يكسبها بعد. وعندما تأتي الأزمات الطارئة أو ينخفض الدخل، يجد هؤلاء أنفسهم في مأزق حقيقي.
نصائح للتعامل الحكيم مع التقسيط
لكي يكون التقسيط نعمة لا نقمة، يجب اتباع بعض المبادئ الأساسية. أولاً، يجب أن لا تتجاوز الأقساط الشهرية الإجمالية 30% من الدخل الصافي، مع ترك مساحة للادخار والطوارئ. ثانياً، ينبغي التقسيط فقط للضرورات وليس للكماليات، والتفكير مرتين قبل الإقدام على أي التزام مالي طويل الأمد.
ثالثاً، من الضروري قراءة كل التفاصيل والشروط الصغيرة قبل التوقيع، وفهم إجمالي المبلغ المستحق بما في ذلك الفوائد والرسوم. ورابعاً، يجب تجنب تراكم أقساط متعددة في وقت واحد، فالحكمة تقتضي إنهاء التزام قبل الدخول في آخر.
التقسيط سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون جسراً للحصول على حياة كريمة، أو طريقاً سريعاً نحو الهاوية المالية. والفيصل في ذلك هو الوعي المالي والانضباط الذاتي. في عصر الإغراءات الاستهلاكية، يبقى العقل الواعي هو خير حارس للمستقبل المالي، والقدرة على قول “لا” للإغراءات هي مفتاح الاستقرار والأمان.
فلنتذكر دائماً أن الحرية الحقيقية لا تأتي من امتلاك كل ما نرغب فيه، بل من القدرة على العيش دون ديون ترهق كاهلنا.. وتسرق راحة بالنا…
كاتب المقال : خالد سالم – إعلامي .. نائب الامين العام لاتحاد الإعلاميين الأفريقي الأسيوي
اقرأ أيضا
الإعلامي خالد سالم يكتب لـ «30 يوم» : حياتي من غيرك مستحيلة




