توبكُتّاب وآراء

الإعلامي العراقي حسين الذكر يكتب لـ «30 يوم» : عُراة الأوطان !

ما هي الأسس الإنسانية التي يولد فيها البعض اغنياء والاخرين فقراء .. يُعتقد إنها ذات المشكلة التي هرب منها ( بوذا والغفاري وتولستوي ) قبل قرون تخلصا من وصم العار المطارد بكل زمكان في ظل وعي تام للمسؤولية الأخلاقية الابدية التي ستلاحق حتى الموروثات التي لا يمكن أن تضفي وتشرعن حقا مغصوب .

كنت طفلا ألعب في بيت جارنا الحاج ابا محمد رحمه الله اذ كان يخرج باكرا يكدح نهاره كله حد الانهاك فيدخل تحت انظار زوجته المجهدة من شؤون البيت واحاطة اطفاله الفرحين بقدومه اذ حرص على ادخال البهجة في نفوسهم عبر أبسط الهدايا وان كانت كسرة خبز محلاة .

مرت سنوات على هذا الحال وبيته لم يتغير قيد انملة برغم كل الجهود المضنية والوقت المسخر والهم المحمول على اضلاع محدودبة .. اذ لم يشهد اي تحسينات او تطويرات او ادخال تقنيات يمكن لها ان تخفف عبء الاشغال البيتية ..

ابو محمد ظل طوال تاريخه ناصع البياض مواطن مستقر خاضع لمنطق السلطة حتى اكتوى يوما في ( اكذوبة خدمة العَلَّم ) التي تؤسس بها الجيوش حماية للانظمة وقوى السلطان المرغوب فيه والمؤيد من خارج الحدود – كما تزعم ادبيات سياسات اهل الظل – .. كما كان اول المشاركين في الاعمال الطوعية والتبرعية والطقوسية والاعراف المجتمعية… لم يترك واجبا الا واداه لاصدقائه وابناء المنطقة حتى من لا يعرفوه .

لم يتشاجر يوما ما ولم يسمع صوت له او لعياله ولم ير احد بناته .. ظل حريصا جدا على اداء متطلبات المنطق القانوني والشرعي والعرفي .. وقد عاجله الزمن قبل اوانه لثقل المسؤوليات حتى احدودب باكرا واتشح سواد راسه مبيضا كما غزت وجه التجاعيد وظهرت ندباته قبل اباء اقرانه من المترفين.. لم نجده يوما بطرا او لاهيا .. لم يلبس الا ملابس العمل التي كانت تجهد ام عياله باعدادها وتهيئتها لتكون صالحة للمسجد والواجبات الاجتماعية .

في أحد الايام مرض ابا محمد .. وزاره جميع معارفه ، معبأين معهم : ( البرتقال والرمان والموز والعصائر … كما ان بعضهم شارك بجلب الدواء فيما آخرين اسهموا بالطبخ المضاعف في بيوتهم لامداد حجايات اسرة ابا محمد بوجبات اساسية ايمانا منهم بان اهل هذا الدار لا يملكون الا قوتهم اليومي … وبما ان صاحب الراية قد مرض فلا عزاء لبقية اسرة افنت عمرها بخدمة المواطنة الصالحة مقدمة اياها على ادخار اي شيء آخر سوى قطرات الحياء وخشية الانزواء .. توالت الايام وقل الزائرين وشح المعطين وداست عربات الزمن بحوافرها تواضع التاريخ بعد ن ابرز وحش الالة انيابه .

مرت الايام وخَفَتَ انين المتوجعين فيما وقرت مسامع اللاهثين واتسعت مساحات الفراق ولم يعد يذكر ابا محمد الا من باب النزر ومن النزر كحبات مطر صيف نازلة في جب ماء جاف .. حتى قلبت آخر صفحة من مذكرات بيضاء .. ربما كان يتم تداولها في الجوامع حيث اعتاد ابا محمد ارتيادها عند الدعاء والصلاة .. او في تجمعات لم يعد له اثر فيها حتى من اقرب جواره المنشغلين بحمل حجر الخلاص من جريان عتاة الارض التي اسودت صفحاتها ..

مرت الايام كما هو متوقع في بواطنها وكواشفها التي لا يقيم فيها وزنا لانين الرابضين خلف الجدران .. ولم يكشف الليل ستره الا وقد اخترق صوت الناعي صراخ الاسرة المحافظة فقد نعوا اباهم الذي غادر دنياه دون اي دناءة تذكر .. وترجل عن ظهر وطنه بعد ان نبذه الوطن .. وتجمع المتذكرون – ولو بعد حين – وساروا راجلين مودعين وكثيرهم هاتفين : ( لا اله الا الله .. الله يرحمك ) .. كما اصروا على مسح ما نزل من حر تانيب الضمير على الوجنات المحمرة خجلا . ثم ادوا واجب الدفن والعزاء وتحملوا التكاليف الاخرى … وبعد الاربعين نسي ابا محمد مرة اخرى ولم يعرف الناس عنه شيء حتى حينما وقفت عربة تحمل بقايا أمراة محتشمة واطفال محبطين واثاث لا يصلح لبني الادميين .. قالوا لاحقا ان صاحب الدار قد امهلهم شهر على دفع الايجار او الرحيل .. فخسرت المدينة احد بناتها ورموز الظل فيها ..

فيما اسدل الستار على ستر ما تبقى من ادعياء الشرف .. وفيما كانت العربة تطوي صفحات الحزن وتسير نحو المجهول وأثره نزلت دمعات بائسة وتمتمات متباكية كما شوهدت على الجانب الاخر من الشارع الرئيسي للمدينة اذ كانت تبنى بيوت فارهة وعمارات شاهقة رفعت على جدرانها غير المكتملة يافطات كتب عليها ( يا ناظر الدار صلي على النبي المختار ).

ثمة اسئلة محيرة لا بد لها ان تجتاح الانسان سوي التنشئة سليم الفطرة : من المسؤول عن ارض الوطن ولماذا ازمة السكن قائمة دوما في بلداننا العربية والاسلامية ..؟ ففي الوقت الذي كانت فيه الامبراطوريات المصنوعة توزع اراض شاسعة من لحم ( ثور الوطن ) على بعض الاسر والعناوين .. كانت دماء الجنود الذين عاشوا وماتوا بلا دار يسكنوها ومعهم آلاف الاسر المفجوعة بأبنائها المنسيين في معارك بعيدة جدا عن حدود الوطن ..

على طول خط الحياة .. يبدا الطفل بالتعلم ثم يدرس ويجتهد وينجح بدموع والديه وكد وجهد لا يمكن ان يقارن او يقدر بثمن ما .. وبعد التخرج وحرق المراحل يتم تعيينه براتب زهيد لا يكفي لدفع ايجار دار بسيطة تتكون من غرفة وملحقاتها … مما يضطره عند تباشير اول طفل جديد البحث عن عمل آخر بعد الدوام الرسمي ليقضي عمره كله باحثا عن هدف اعلى واغلى شيء عندهم يسمى ( مسكن ) يمثل امتار كقطرة بحر في محيط من اراض بلادهم الشاسعة المسيطر عليها من قوى لا تسمح اطلاقا بحل ازمة السكن التي تعد من الازمات المحلولة اصلا والمفروغ منها في العالم الغربي الذي يبني ملايين الشقق ليس لمواطنيه فحسب بل لكل الطاقات والمواهب النشطة والشاطحة والهاربة من جحيم بلدانها لتعيد تصنيعهم وتوجيههم ثم تنصيبهم حراس امينيين على توزيع الاراض في بلدانهم بشكل لا بد له ان يفضي الى توالد ازمات اسمها السكن . !

 اقرأ أيضا

الإعلامي العراقي حسين الذكر يكتب لـ «30 يوم» : المخدرات .. مسؤولية تنفيذية لا توعوية !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى