توبصحةكُتّاب وآراء

د. أمنية المراغي تكتب لـ «30 يوم» : دور المرأة في القضية السكانية وتنوير المجتمع بها في الآونة الأخيرة

تُعد القضية السكانية من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، خاصة في الدول النامية التي تشهد معدلات نمو سكاني متسارعة تفوق قدرتها على توفير الموارد والخدمات الأساسية لمواطنيها. وفي قلب هذه القضية المعقدة، تبرز المرأة كعنصر محوري لا غنى عنه في صياغة الحلول وتنفيذ السياسات السكانية الفعالة.

المرأة: المحرك الأساسي للتغيير الديموغرافي

لم تعد المرأة مجرد طرف متأثر بالسياسات السكانية، بل أصبحت الفاعل الرئيسي في تشكيل المستقبل الديموغرافي للمجتمعات. فالمرأة المتعلمة الواعية تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن الإنجاب والتباعد بين المواليد، وهو ما ينعكس إيجابياً على صحتها وصحة أطفالها، وعلى الاستقرار الاقتصادي لأسرتها.

تشير الدراسات الحديثة التي أجرتها منظمات دولية متخصصة إلى أن كل سنة إضافية من التعليم تحصل عليها الفتاة تؤدي إلى انخفاض معدل الخصوبة بنسبة تتراوح بين 5% إلى 10%. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل تعكس حقيقة عميقة مفادها أن تمكين المرأة تعليمياً واقتصادياً هو المدخل الحقيقي لمعالجة الانفجار السكاني.

التنوير المجتمعي: مسؤولية مشتركة

في الآونة الأخيرة، برز دور المرأة كسفيرة للتوعية السكانية داخل مجتمعاتها المحلية. فالمرأة التي تدرك أهمية التنظيم الأسري والرعاية الصحية الإنجابية تصبح مصدر إلهام ومعرفة لنظيراتها، خاصة في المجتمعات الريفية والمناطق المهمشة حيث تنتشر المفاهيم الخاطئة والممارسات التقليدية الضارة.

لقد أثبتت البرامج التي تستهدف تدريب النساء كمثقفات صحيات وسفيرات للتوعية السكانية نجاحاً ملحوظاً. هؤلاء النساء يتحدثن بلغة مجتمعاتهن، ويفهمن تحدياتهن، ويستطعن كسر الحواجز الثقافية التي قد تمنع انتشار المعلومات الصحيحة. إنهن يمثلن نموذجاً حياً للتغيير الإيجابي، وهو ما يجعل رسالتهن أكثر قبولاً وتأثيراً.

الإطار القانوني والحقوقي

من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن حق المرأة في التحكم في خصوبتها والحصول على المعلومات والخدمات المتعلقة بالصحة الإنجابية هو حق أساسي ومُصان. المواثيق الدولية، بدءاً من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) وصولاً إلى برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية، تؤكد جميعها على أن تمكين المرأة وضمان حقوقها الإنجابية هو حجر الزاوية في أي سياسة سكانية مستدامة.

ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في تحويل هذه النصوص القانونية إلى واقع معاش. كثير من الدول لا تزال تفتقر إلى التشريعات الملائمة التي تضمن حق المرأة في الحصول على وسائل تنظيم الأسرة دون قيود، أو التي تجرّم الزواج المبكر وتحمي الفتيات من الممارسات الضارة.

التحديات المعاصرة

رغم التقدم الملحوظ في العقود الأخيرة، لا تزال المرأة تواجه تحديات جمة في ممارسة دورها التنويري بشأن القضية السكانية. من أبرز هذه التحديات:

*التحديات الثقافية والاجتماعية:* في بعض المجتمعات، لا تزال النظرة التقليدية للمرأة تحصر دورها في الإنجاب ورعاية الأسرة، دون الاعتراف بحقها في اتخاذ قرارات مستقلة بشأن جسدها وحياتها الإنجابية.

*محدودية الوصول إلى الخدمات:* في كثير من المناطق، خاصة الريفية والنائية، تفتقر النساء إلى الوصول الميسر لخدمات تنظيم الأسرة والرعاية الصحية الإنجابية، سواء لأسباب جغرافية أو اقتصادية أو ثقافية.

*الأمية والفقر:* تظل الأمية والفقر من أكبر المعوقات أمام تمكين المرأة. فالمرأة الفقيرة أو الأمية تجد صعوبة في الوصول إلى المعلومات الصحيحة أو الخدمات المناسبة، مما يجعلها أكثر عرضة للزواج المبكر والإنجاب المتكرر.

*العنف القائم على النوع الاجتماعي:* لا يمكن إغفال أن العنف ضد المرأة، سواء الجسدي أو النفسي أو الاقتصادي، يحد بشكل كبير من قدرتها على اتخاذ قرارات حرة بشأن حياتها الإنجابية.

استراتيجيات التمكين والتنوير

لتعظيم دور المرأة في معالجة القضية السكانية، يجب تبني نهج شامل ومتكامل يرتكز على عدة محاور:

*التعليم:* الاستثمار في تعليم الفتيات هو الاستثمار الأكثر فعالية في مواجهة التحديات السكانية. يجب ضمان حصول جميع الفتيات على تعليم جيد ومستمر، مع إدراج مناهج للتربية الجنسية الشاملة التي تزودهن بالمعلومات الصحيحة عن أجسادهن وحقوقهن الإنجابية.

*التمكين الاقتصادي:* توفير فرص العمل والتدريب المهني للنساء يمنحهن الاستقلال الاقتصادي والقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة. المرأة العاملة تميل إلى تأجيل الزواج والإنجاب، والاستثمار أكثر في تعليم وصحة عدد أقل من الأطفال.

*تحسين الوصول إلى الخدمات الصحية:* يجب توفير خدمات صحية إنجابية شاملة ومجانية أو بأسعار معقولة في جميع المناطق، مع التركيز على المناطق الريفية والمهمشة. هذا يتضمن توفير وسائل تنظيم الأسرة المختلفة، والرعاية أثناء الحمل والولادة، والمشورة الطبية المتخصصة.

*الإصلاح القانوني:* يجب مراجعة وتعديل التشريعات الوطنية لتتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. هذا يشمل تجريم الزواج المبكر، وحماية حق المرأة في الحصول على وسائل تنظيم الأسرة دون موافقة الزوج أو الولي، وتوفير الحماية القانونية من العنف الأسري.

*التوعية المجتمعية:* إطلاق حملات توعية شاملة تستهدف تغيير المفاهيم والممارسات الثقافية الضارة، وإشراك الرجال والقيادات الدينية والمجتمعية في هذه الجهود لضمان قبول ودعم مجتمعي واسع.

التجارب الناجحة

تقدم بعض الدول نماذج ملهمة لكيفية الاستفادة من دور المرأة في معالجة القضية السكانية. في بنغلاديش مثلاً، نجحت برامج تمكين المرأة المتكاملة في خفض معدل الخصوبة من 6.3 طفل لكل امرأة في السبعينيات إلى 2.1 طفل حالياً. هذا التحول الديموغرافي الهائل ارتبط بتحسين وضع المرأة التعليمي والاقتصادي، وتوفير خدمات تنظيم الأسرة على نطاق واسع.

في تونس، ساهمت السياسات التقدمية التي أعطت المرأة حقوقاً قانونية متساوية، بما في ذلك الحق في الطلاق وتنظيم الأسرة، في تحقيق انتقال ديموغرافي ناجح. اليوم، تتمتع تونس بمعدل خصوبة منخفض نسبياً مقارنة بدول المنطقة، مع تحسن ملحوظ في المؤشرات الصحية للأمهات والأطفال.

الطريق إلى الأمام

إن معالجة القضية السكانية لن تتحقق من خلال سياسات قسرية أو أحادية البعد، بل من خلال نهج قائم على الحقوق يضع المرأة في المركز. عندما تتمتع المرأة بحقوقها الكاملة في التعليم والعمل والصحة، وعندما تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات حرة ومستنيرة بشأن حياتها الإنجابية، فإن المجتمع بأسره يستفيد.

إن دور المرأة في تنوير المجتمع بالقضية السكانية لا يقتصر على كونها مستفيدة من الخدمات والبرامج، بل كفاعل أساسي في تصميمها وتنفيذها وتقييمها. المرأة هي الأم والمربية والقائدة المجتمعية، وهي الأقدر على فهم احتياجات مجتمعها وإيجاد الحلول الملائمة ثقافياً واجتماعياً.

في الختام، فإن الاستثمار في المرأة ليس فقط واجباً أخلاقياً وحقوقياً، بل هو أيضاً الاستراتيجية الأكثر فعالية لتحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الديموغرافي. إن مستقبل القضية السكانية يكمن في أيدي النساء المتعلمات المتمكنات اللواتي يمتلكن الوعي والقدرة على قيادة التغيير في مجتمعاتهن. ومسؤوليتنا جميعاً، كمشرعين وصانعي سياسات ومجتمع مدني، هي توفير البيئة الملائمة التي تمكن المرأة من أداء هذا الدور الحيوي بكفاءة وفعالية.

كاتبة المقال : د. أمنية المراغي – أستاذ القانون الجنائي – جامعة ميتشجان ،نائب رئيس اللجنة التشريعية بالأمم المتحدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى