سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : كسر التّعوِيذة

كان يا ما كان،في قديم الزمان، يُحكى أن صندوقًا كان مخباءً في زاويةٍ مظلمة.
صندوقٌ قديم، متآكل الأطراف، لكنه قوي.. صلب.
صندوقٌ قابع في الزوايا المهترئة بداخلنا.
لا يجرؤ أحد على كسر أقفاله، ولا حتى على تنظيف الغبار عنه.
بَدَايَةُ التَّعْوِيذَة
حكاياتٌ عن طفولةٍ لا تزال عالقة،
رُصِدَت عليها تعويذة لا تُفكّ.
وكان شبحٌ يحرسها، لا يجرؤ أحد على الاقتراب. بقي هكذا… إلى أن صَدِئ القفل.
لكن الصدأ لم يُضعفه، بل زاده صلابة.
حتى صار القفل عصيًّا على الفتح،
كأن السنين لحمت الحديد بالوجع.
في ليلةٍ ما، خفّ صوت الحراسَة،
كأنه تعب من الانتظار.
فاقترب طفلٌ بخطواتٍ مرتجفة، وها أنا أرى ما بداخله.
القصة التي رُويت في الليل لتزيد الطفل رعبًا لا أمانًا…
كان يفترض أن تكون فرشات ملوّنة،
نتراقص بين الأزهار، لكنها كانت حكاية الأشباح التي تأكل الأطفال الذين لا ينامون.
فدفن الطفل رأسه وارتجف، نام على خوفٍ لا على أمل.
- تلك التي لم يُداعب شعرها أحد
إلا بقسوة “الترتيب”،
لا لإضافة حنان،
بل لإزالة عيب.
- وذلك الثوب الذي فُرض أن يبقى نظيفًا،
ليتحدث عن ترتيب الأم
لا عن مرح الطفولة.
- على الطريق، رُسمت صورة الولد المهذّب،
لينبهر الناس به لأنه لا يركض ولا يتّسخ،
ونسوا أن الطفولة خُلقت لتتعفّر بالتراب.
تَعْوِيذَةُ التَّكْرَار
حين تتكرر نفس الحكاية بأسماء مختلفة،
فاعلم أن التعويذة ما زالت تعمل.
نعيد نفس الاختيارات،
ننجذب لنفس الأشخاص،
نرجع لنفس الوجع،
ونُقسم كل مرة أنها الأخيرة.
كسر التعويذة يبدأ
حين نسأل:
“لماذا أرجع لنفس الوجع؟”
لا “لماذا الحياة تعيد نفسها؟”
تَعْوِيذَةُ الْحُبِّ الْمُؤْذِي
هناك حبٌّ يبدو كضوء، لكنه يحرق.
التعويذة هنا هي الوهم
بأننا لا نُرى إلا حين نتألم.
الحب أن نرى الرضى حتى في الصمت،
أن نشعر بالسلام وأنت وحدك.
كسرها يعني أن نفهم:
ليس كل دفءٍ حبًا،
وليس كل حضور يستحق البقاء.
السلام لا يخاف من الوحدة،
والوحدة أحيانًا تكون شفاء.
تَعْوِيذَةُ الصُّورَةِ الْقَدِيمَة
كم منّا ما زال يعيش
تحت نظرةٍ صُنعت له قديمًا؟
“أنت الغلط.. أنت الضعيف.. أنت الأقل”
كسر التعويذة هو استرجاع الحق
في تعريف الذات من جديد:
“ربما لم أكن كما رأوني، ربما كنت أكثر.. فقط لم يَرَوْني”
قيمتك ليست بنظرة الناس،
قيمتك بالأثر الذي تتركه.
وجودك الحقيقي يبدأ من إقرارك به،
وحين ستقرا في عينيك..
وسوف يلمع في عيون للناس.
تَعْوِيذَةُ الصَّمْت
الصمت ليس دائمًا حكمة،
أحيانًا يكون لعنة.
لعنة تكمّم الصوت الحقيقي
باسم الأدب أو السلام.
العيب ليس في الكلام،
العيب في عدم اختيار الكلام.
العيب أن تشوّه الحقيقة بصمتك.
لكن التعويذة انكسرت.. يوم خرج الصوت ولو همسًا:
“كَفَى”
تَعْوِيذَةُ الْخَوْف
الخوف القديم لا يزول بالهرب،
بل بالمواجهة.
خوفٌ ورثناه من طفولة
جلدت أرواحنا بكلمة “احترام”،
ففقدنا احترامنا لذواتنا.
أليس من قلة الاحترام
أن نرضى بذواتٍ مسلوبة؟
كل خطوة مرتجفة
باتجاه المجهول
هي كسر لتعويذة
حبستنا في “أمان مزيف”
فَتْحُ الصُّنْدُوق
لم يُفتح الصندوق دفعة واحدة،
بل انشق شيئًا فشيئًا، كقلبٍ يتعلّم الأمان من جديد.
الآن أدركت:
لم تكن التعويذة خارجية،
كانت داخليّة…
وأنا وحدي من يملك مفاتيحها.
ولأول مرة،لا أخاف أن أفتحها.