فن و ثقافةكُتّاب وآراء

الإعلامي العراقي حسين الذكر يكتب لـ «30 يوم» : صمت العيون !

في مرحلة عمرية ليست بعيدة ربطتني علاقة مهنية بشخص اصبح صديقي جراء ما يحمل من جدية وعملية وبراءة .. الا ان مشكلة تعتريه جعلته يبتعد عن اجواء الفرض الاجتماعي للمؤسسة فقد ظل صامتا لا يجيد فنون الحوار وحتى الابتسامة الا نادرا بصورة غدا ناشزا جدا عن المشهد الصاخب لمحيط العمل حتى اضطر مغادرة الموقع مهزوما مع اني حافظت على علاقتي به لمرحلة ما كنت اتحسس عمق عيونه التي لا تتحرك كثيرا وكانه يحمل علامات تعجب اعتراضية صامتة وان لم تكن مقصودة حتى تم الاطاحة فيه مع انه جدير ويمتلك من المواصفات ما يؤهله للبقاء والترقي اكثر من الاخرين الذين لا يتفوقون عليه الا بلغة طول اللسان والتحكم بزر حدقات العيون !
اعتاد البعض في تنمرهم العلني قولا على من يسكت بلسانه ويركز دون حراك اي يبقى ( مطرقا ) لذا يتهكمون عليه : ( الاطراق للحمير ) .. مع ان بداتي حول الحمير قد تكون غير موفقة لتناولي تفاصيل هذا العنوان مع اعتقادي الراسخ بان الله لا يمكن ان يظلم مخلوقاته وحاشاه ان ينعتها بالقبح : ( ان اقبح الاصوات لصوت الحمير ) .. ثمة انعكاسات نفسية تحمل معان عدة في بعض حالات الصمت الطويل مع تركيز النظر بنقطة معينة .. الذي يقابل به الانسان.. انسان آخر من اوجه متعددة ليس بالضرورة ان تعني حوار ما .
ايام الطفولة لم اكن ارغب الذهاب الى دكان محلتنا كلما حاولت امي رحمها الله ان تطلب شراء حاجة ما كنت اتهرب بحجج واهية .. حتى تساءلت احدى المرات عن سر الرفض في هذا الواجب تحديدا فيما اسارع لاقتناص اي فرصة للهرب خارج اسوار البيت وتنفس حرية الشارع .. لم تكن امي تعلم ان صاحب الدكان كان رجلا عجوزا كانه هيكل عظمي بوجه متجهم صامت لا يبتسم ولا يتحدث ولا يرد ولا يحب السائلين حتى اسكن الخشية منه بنفسي دون ان يتقصد ذلك .. العدوى لم تقتصر على شخصيتي التي ربما اتسمت بالخوف من هذا الشبح الانساني .. اذ تبين لاحقا ان بعض جيراننا اطفالا وكذا نساء لا يحبذون الشراء منه .
ظلت تلك المخاوف تشكل هاجسا وحاجزا اتجاه الصامتين او المتجهمين حتى في تلاوات التقديس وطقوسية بعض العبادات التي تتطلب صمت معشق بخشوع ورهبنة تكفي لاخراج النص كما ينبغي – باقل تقدير – .. تلك التداعيات ظلت تظهر على شكل ندبات اجتماعية ترافقني في مراجعات الدوائر او انتقاء صداقاتي .. لم اكن اقترب من الصامتين سيما التجهمين منهم ..
ضحكت جدا من تلك التهم التي وجهها لي احد الاصدقاء واصفا اياي بالمتجهم والحزين اكثر مما ينبغي .. مع اني لا ارى فيها محطة او مجرد راحة في انفاسي المرحة والمحبة للخير .. ثم تساءلت عن تلك الصفات التي تمثل عندي جزء من نرجسية ذات منغلقة وربما خيلاء متورمة .. الا ان حكم الاخرين حتما مختلف تماما عما اعرفه عن نفسي .. كما كنت احكم في طفولتي على صاحب ( الدكان ) .
حينما كنا نذهب لزيارة موتانا في قبور تقع على تل مرتفع يشرف على واد كثيف النخيل مغرق المياه بمنظر رهيب معزز باثر تلك اللحود الصامتة والاثار المندرسة التي خلفت في ذاكرتي الكثير من مظاهرها المخيفة والحزينة .. اذ كنت انظر من بعيد للبحر المتوائم مع صمت النائمين ابدا رغم عنهم وعنا .. لم يكن هناك صوت يختلج النفس سوى انين وترتيل ونعي شجي .. لا يقطع الانفاس فحسب بل يفرغ ما تبقى من محابر الجفون ونوازع العيون .
كذا حينما كنت اطالع الافق من اعلى سطح الدار اذ يفترش العمق كانه محلق امامي مترسب في اعماقي على شكل حكايات وخيالات تتجلى عبر المآذن المرتفعة والطيور المحلقة والنايات الشاهقة والسماء البعيدة الواسعة وكتل الغيوم المخيمة بافق برغم كل مساحاته الشاسعة لم اهتك ستره الا من بوابة المجهول وما يكتنفه من غموض فما زال يبعث في نفسي الاسى والخشية وربما الشك والتساؤل برغم عقود العمر التي تجاوزت بها شاهقات المدن ومنخفضات الوديان واطلعت على الاف المعتقدات والاديان وتعجبت من ترهات الازمان ووحشة المكان .
تلمعت في وجهي مرة حتى انعكس ضوء عينيها كاشارة صالحة للتصالح مع الذات سيما في صباحات جميلة .. من وقع جمال عينيها كدت اكلمها في خطوة لم اعتد عليها .. اذ ان كوابح التجنيح الكلامي متعمقة منذ الرحم حتى القبر يصعب معها كسر قوالب التجميد والتخطيط الاحمر .. لذا فضلت التأني لعلها تتحرك او تبادر في السؤال عن الاسباب الموجبة لذلك الفضول الذي اعتراني حد التبسمر امامها ..
ظللت الطريق ولكني لم ازل على ذات مقبض الانجذاب الذي اسرني ليس كفحوى غريزي او منظر جمالي فذاك لا يشكل بفلسفتي منعطفا يستحق ان اتذكره .. لكن حدقات العيون التي لا تتعدى حجما وسعة فردة تمر .. كنت ار العالم كلوحة تجلت في سينمائية غير معلنة .. جعلتني اقف متحديا شروط السلف ومتحررات الخلف .. لست حائرا ولا خاشيا اذ تعودت اطلاق عنان الشك لكل الموروثات حتى ما تنحر الرؤوس لاجلها ..
لم استسلم وبقيت اترقب حدقات تنطق رذاذا يتبتل حد الارواء او دمعا تهطل من حزنه عيوني .. تخطيت النوازع الانسانية وعبرت شائكات القانون والعرف وقبعت على بعد خطوة واحدة لم تفصل بين عينيها وعيني سوى كلمة .. كلمة واحدة قد تسفر عن كامل جمال وجهاها المتجلي بصمت خاشع حد السجود.. او اسبح في مرامي الجهل واستغرق في مكنون ذات لا يحركها الا مسكون ..
بعد ذلك الصبر والتوغل المحفوف بالمخاطر .. لم ترد التحية لم تنطق بالسلام ولم تخضع للاستسلام .. كما انها لم تشعر بحياء خطواتي ولم تنزل قطب حاجبيها ولم تسدل رمشيها .. كل ما في الامر .. لم يكن أمر يستحق المرور .. خجلت من نفسي وعدت باكرا لحضيرة الحمير معتذرا من الحمار وشطحات ما دار !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى