سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : الهوِينة… مشي يشبه السلام

في أحد مشاهد مسلسل أبي ليلى المهلهل، قالت ابنة أخيه بيت شعر لحظة مقتله:
“الهوِينة كان يمشي… كان يمشي على رمشي، اقتلوه بهدوء، وأنا أعطيه نعشي.”
لا أعلم إن كان هذا البيت من الشعر الجاهلي حقًا أم من خيال الكاتب،
لكن كلمة الهوِينة منذ أن سمعتها، أسرت فؤادي.
كلمة تمشي على أطرافها، كأنها تخاف أن توقظ الصمت.
الهوِينة… كم هي جميلة هذه المفردة.
تصِف المشي، لكنها في معناها أعمق من الحركة.
فيها رفق، وهدوء، ورهافة لا تراها العين بل تشعرها الروح.
كأنها مشي الحُكماء، الذين لا يندفعون،
ولا يتركون في الأرض أثرَ قسوةٍ ولا عجلة.
وكما وصفها الفرزدق في العصر الأموي:
أَمْشِي الهُوَيْنَةَ وَالوَقَارَ كَأَنَّمَا
أَمْشِي عَلَى جَمْرِ الوَجَى وَأَنَا حَذِرُ
انظروا إلى العبارة “كأنما أمشي على جمر الوجى”!
إنها ليست خوفًا من السقوط، بل وعيٌ كامل بأن كل خطوة تلمس أرضًا من المشاعر.
إنها الهوينة في أسمى صورها: خفة في الحركة، مع ثقل في المسؤولية.
الهوِينة ليست مجرد مشي ببطء…
هي سلوك داخلي قبل أن تكون حركة جسد.
من يمشي بالهوِينة، يمشي أيضًا في أفكاره، في ردوده، في أحكامه على الناس.
كأنها حالة وعي تذكّرك أن الحياة ليست سباقًا،
بل مسيرٌ لطيف بين القلوب.
وحروف “هُوْن” – أصل الكلمة – تحكي القصة كاملة:
- الهاء: هُدوء النفس، ذلك الهدوء الذي لا تكسره عجلة العالم
- الواو: وِصال الروح باللحظة، لا بالهدف فحسب
- النون: نُعومة في التعامل مع الأرض والناس، كالماء يجري من غير صخب
فكأن الاسم لم يُخلق صدفة، بل سُجي بأسرار من معناه.
كم منا اليوم يسير بتلك الهوِينة؟
يمشي بين الناس برفق، يخاف أن يؤذي، يخاف أن يجرح؟
كم من قلبٍ يمشي كالنَسَمة، لا يترك وجعًا خلفه؟
لو أننا نمشي دائمًا بتلك الهوِينة،
لكان في حياتنا سلام أكثر، وخلاف أقل، وجروح أهدأ.
كم نفتقد “الهوِينة” في زمن السرعة!
الكل يجري… في الكلام، في الأحكام، في الردود، حتى في الحب.
أصبحنا نخاف أن نتأخر، فصرنا نؤذي ونحن نسرع.
الهوِينة اليوم ليست ضعفًا، بل ترفًا روحيًا.
من يمتلكها فقد امتلك سلامًا نادرًا،
وسكينة لا تهزّها فوضى العالم.
في زمنٍ يركض فيه الجميع، صارت الهوِينة درسًا في الإنسانية.
نركض في الكلام، في الردود، في الغضب،
حتى صار اللسان يسبق القلب، والنية تضيع بين السرعة والتبرير.
نجرح باسم الصراحة، ونؤذي باسم الصفاء.
فهل هذه قوة؟ أم قسوةٌ بثوبٍ ناعم؟
القسوة ليست في الغضب فقط،
بل في اليد التي تضرب لأنها قادرة،
وفي اللسان الذي يرمي سهامه على من لا يملك الرد.
أن تؤذي من هو أضعف منك، أن تستهين بمشاعر من وثق بك،
أن تستخدم الصراحة كسلاحٍ لا كجسر… تلك هي القسوة.
تخيّلوا لو أن القلوب تمشي كما تمشي الأقدام بالهوِينة…
كم من جرحٍ كان سيُشفى قبل أن يُفتح،
وكم من كلمة كانت ستُقال برفقٍ بدل حدّة،
وكم من علاقةٍ كانت ستبقى، لو أننا فقط مشينا ببعض الرفق.
الهوِينة ليست حركة، إنها طريقة في الحب، في العطاء، في النظر إلى الحياة.
لم اقولها نصيحة، بل أمنية.
حلمٌ صغير أن نمشي جميعًا — يومًا ما — بتلك الهوِينة.
اقرأ أيضا
سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : مسخ بجدارة