الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : بين الخيمة والسماء … رحلة إلى الذات

منذ طفولتي أحببت عيشة البدو الرُّحّل المتنقلة، وبساطة الأرياف وطيبة أهلها.
وكم كنت أحسد من يسكن خيم الصحراء، يشتمّ هواءها النقي، ويسمع ثغاء خرافها وصهيل خيولها وعواء ذئابها، بعيدًا عن صخب الحياة وضجيج الأيام. وكم ذكرت لأبي رغبتي في العيش بتلك الخيم، بعيدًا عن رطوبة البحر وزحمة المدينة.
لم يتحقق الحلم، ولكن ما يشبهه تحقق يومًا، حين زرتُ إحدى صديقاتي في مدينة العاصي والنواعير، حيث كانت تجمعني بهنّ صلة فكرٍ وصداقةٍ قوية. كانت الصدفة أن زرتُهنّ في صيف آب اللهّاب كما يُقال في ساحلنا البحري، وهناك كانت المفاجأة الجميلة:
في الصيف ينامون على أسطح البيوت، ينصبون شيئًا يشبه الخيام فوقها، لكل مجموعةٍ خيمةٌ خاصة، وأسرّتهم مفروشة على الأرض النظيفة. خيمٌ بيضاء تقي شرَّ البرغش الذي ينتشر بكثرة على ضفاف نهر العاصي.
كانت متعتي تفوق متعة طفليَّ اللذين لم يتجاوزا الخامسة من عمرهما.
بدا الأمر لي في البداية غريبًا، ثم صار ممتعًا وجميلًا. تمددنا على الأرض المفروشة بحصيرةٍ من القش، تعلوها طبقة إسفنجٍ تضاهي سماكة الفراش، وتحت سقف خيمةٍ كانت مرآةً لضوء القمر الساهر ونجومه، لا يفصل بينهما سوى خيوطٍ من النور. كانت فرحتي عارمة بتلك الليالي الثلاث التي قضيناها في الخيمة، أُشرِد النظر في سقفها الذي لا يشبه سقوف البيوت الباردة، سقفٌ تتخلله خيالات ضحكات القمر الذي يخاصر نجوم الليل، ويعزف ألحان زكازيك التين والعنب.
فلسفة حياة الخيمة قائمة على البساطة والاندماج مع الكون.
جمالها في خلوّها، وسحرها في ما تحويه من مساحة حبٍ وسكينةٍ لا تتجاوز أمتارًا معدودة، مجردة من التعقيد وضجيج الأشياء.
إنها نتاج دهورٍ من الصبر والحكمة، حين تسكنها تشعر بالحرية، لا حواجز بينك وبين السماء والنجوم والقمر.
الحياة فيها تُسمع بالتأمل، وتُشم برائحة النسيم وسكينة الكون، وتُحس بنور القمر وجمال النجوم وأفقها المترامية على تخوم المدى.
العيش فيها متعةٌ تشبه رحلةً إلى الذات، إلى الهدوء والبساطة وسماع نبض الطبيعة في نبض قلوبنا، بعيدًا عن التعقيد والماديات وحضارة التزييف.
والآن، وبعد قرابة عقدين من الزمن، كم أحلم أن أكون صافية الذهن كصفاء تلك الليلة القمراء، على ذلك السطح، حيث السكينة والأمان لحافي ومخدّتي وخيمتي. لقد مللت الأسقف الباردة والعتبات الجاحدة، ومللت الشكليات والزيف.
أشتاق إلى لَمّة أسرةٍ في حضن وطن، وأتمنى أن تعود تلك الأيام، وأن نحيي جلسات الخيام التي أبدعتها نساء القرى ونسجن منها حكايا وأحاسيس اختبأت في أدغال الروح، واعتّقت بالشوق والحنين إلى وطنٍ جريح.
أتوق إلى لقائك أيها الوطن، فهل تتوق أنت أيضًا إلى لقائي؟
ربما كانت الخيمة أكثر من مأوى مؤقت، إنها رمزٌ لحياةٍ نقية، تذكّرنا بأنّ الإنسان كلما اقترب من التراب والهواء والضوء، اقترب من ذاته. ففي البساطة يسكن الجمال، وفي العراء تتجلى الحرية، وحين نخلع زينة الزيف ونعود إلى صفاء الطبيعة، ندرك أن الوطن الحقيقي ليس أرضًا فقط، بل حالة صفاءٍ تعيش فينا أينما كنّا.