الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : أهمية المسافات في العلاقات البشرية

كما أن المسافة بين الأشجار والزهور تتيح للهواء والشمس أن تتغلغلا في أغصانها، فتزداد الحياة إشراقًا وبهاءً؛ كذلك هي المسافات في العلاقات البشرية والإنسانية على اختلاف ألوانها: ضرورة لا غنى عنها.
سواء أكانت هذه العلاقات في الأسرة، أو في العمل، أو في الحب، أو في الحياة العامة، فإنها جميعًا تحتاج إلى مسافات تُصان بها. فالصداقة، والزمالة، والعلاقات العاطفية، وحتى الروابط الإنسانية البسيطة، لا تقوم إلا على حدود واضحة، وفواصل مبنية على الحرية والاحترام، على فهم كل طرف لذاته أولًا، ثم إدراكه للآخر.
الفواصل في أي علاقة ـــ مهما كان نوعها ـــ ليست قيودًا تُكبِّل، بل هي مساحات تمنح كل طرف حقّ التنفس، وتُجنّب العلاقة سوء الفهم، وتحافظ على معناها الحقيقي. وجود مسافات محددة منذ البداية يعني وعيًا ناضجًا بالمكان الذي ينبغي أن يقف فيه كل طرف: أين يتحرك بحرية؟ وأين يلتزم بالوقوف احترامًا؟ وأين يمد يده بالمشاركة؟ وأين ينسحب صامتًا؟
كل علاقة إذن لها مسافة تخصها: فالمسافة في الصداقة غير المسافة في الحب، حيث يصبح الأمر أكثر حساسية ودقة، إذ يتحول كل طرف إلى نصٍّ مفتوح أمام الآخر، عليه أن يقرأه بعناية. وهنا يبدأ التداخل، ويغدو لزامًا على الطرفين أن يطابقا بين النصوص، وأن يفهما معاني بعضها بعضًا: متى يُؤخذ نفس؟ متى يُصمت؟ متى يُسأل؟ ومتى تُترك المسافة رحبة؟ تلك المعرفة هي التي تصنع الانسجام، وتكفل استمرار العلاقة في صفاء وسلاسة.
أمّا إذا أُهملت هذه الفواصل، فإن الدوّامة تبدأ: أسئلة متكررة تنهك الروح ـ لماذا لم تضحِّ؟ لماذا لم تفعل كذا؟ لماذا ولماذا؟ ـ أسئلة تُربك العقل، وتُضعف العلاقة بدل أن تُقويها، وتحوّلها إلى ساحة شكوى واتهام.
الفواصل ليست فراغًا؛ بل هي روح النصوص، ونبض الكلام، وهي الحياة الكامنة في القلوب. بها يكتسب المعنى طاقته، وبها تتنفس الكلمات، كما تتنفس العلاقات. هي التي تمنح الحرية للعلاقة كي تنمو وتزهر، بعيدًا عن الخنق والاختناق.
فالمسافة بين الكلمات في النص ليست فراغًا بلا معنى، بل هي روح الحروف، وجوهر الانسجام بين الجمل. النقاط، والفواصل، وإشارات التعجب والاستفهام، كلها ليست رموزًا جامدة، بل هي نبض حيّ يوجّه القارئ نحو عمق المعنى. تمامًا كما تفعل تعابير الوجه حين يُصغي الإنسان لحديث مؤثر: ضحكة تضيء العين، دمعة تُترقرق، دهشة تتسع لها الأعين، أو صمت مُثقل بالمعنى، أو تصفيق يدوّي، أو كلمة تنطلق من الأعماق بلا استئذان. كل هذه الوقفات والفواصل هي التي تصنع المعنى وتمنحه شكله الكامل.
وكما أن النصوص المكتوبة لا تستقيم بلا فواصل، كذلك العلاقات لا تُبنى بلا حدود واضحة. فمن يكتب سطورًا متراصة بلا علامات، كمن يبني بيتًا بلا أساس: يضيع المعنى، ويختلط المضمون، فلا القارئ يفهم البداية، ولا يستطيع الإمساك بالنهاية.
الفواصل في العلاقات إذن هي محطات لاستيعاب الكلام، ولحظات للتأمل، وفرص للقلب كي يشعر. هي التي تضمن أن تكون العلاقة قائمة على أساس متين، تطيل من عمرها، وتزيدها رسوخًا، فتزهر مع الأيام مهما عصفت بها رياح الخارج.