الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : بكاء العيون سر الحياة والنور الداخلي

العين التي لا تبكي لا تبصر . شيئًا في الحياة.. هذه الحقيقة ليست مجرد عبارة عابرة، بل هي حكمة عميقة تحمل سرًّا لطالما حاول الفلاسفة والمفكرون فهمه، لكنه يبقى حكرًا على من عرفوا ألمهم وألم الآخرين، ومن اختبروا الخسارة والفرح والحب والخذلان.
الدموع ليست علامة ضعف، كما يعتقد كثيرون، بل هي لغة الروح، ورسالة القلب، ونور داخلي يضيء طريقًا لم يكتشفه بعد الإنسان في نفسه.
الدموع، كما الغيوم الماطرة، تنزل حمولتها على الأرض والشجر، فتغسل الأوساخ التي لحقت بالأغصان من غبار الأيام، وتروي عطش التربة، وتعيد للأرض حيويتها، وتجعلها تفوح بعطرٍ جديد، يختلف عن العطر الذي ينبعث من شمس الصباح أو نسيم المساء.
هكذا العيون، عندما تمطر، تنثر على الروح ما يغسل من الداخل كل شوائب الحزن والغضب واليأس. إنها تطهر القلب، وتعيد ترتيب المشاعر، وتوازن بين الألم والفرح، بين ما كان وما ينبغي أن يكون.
قد نذرف الدموع في حالات الألم، عندما نخسر من نحب، أو عندما يخذلنا القدر، أو عندما نرى قسوة الحياة تزلزل أماننا.
وقد نذرفها أيضًا في حالات الفرح الغامر، حين تتدفق السعادة فجأة، فتفيض العيون حتى قبل أن يدرك العقل ما يحدث.
أحيانًا نذرف الدموع في شرودٍ عميق، حين يسبح الذهن بعيدًا بين ذكريات الطفولة، بين أحلام لم تتحقق، وبين مستقبل نأمل أن يكون أفضل. كل دمعة، مهما كانت خفية أو صامتة، هي بذرة أمل وزهرة تتفتح في النفس بعد أن تُسقى.
العين الباكية تسكب دنانها التي امتلأت بالحزن لتسقي بها خدودًا عطشى للفرح، ولتزهر من جديد وتملأ المكان بوعي وحياة، بعد أن أبعدت غشاوة كانت تعترض طريق رؤيتها للعالم.
إنها رسول سلام داخلي، يُنذر ويُفرج، يحذر من تراكم الأوجاع في الصمت، ويعطي للجسد والقلب فرصة لاستعادة توازنه.
كل دمعة هي دورة حياة داخلية، مغادرة لجزء من الحزن، استقبال لنور جديد، واستراحة مؤقتة للقلب والروح.
الدموع ليست حكراً على العين فقط، فالقلب يبكي، والضمير يتألم، والأعصاب تنهار أحيانًا، خاصة عندما يثقل الوجدان بالحزن المتواصل أو بالذنب المتراكم. في بكاء الجسد كله، تطهير وراحة نفسية، تحرر من العذاب الداخلي الذي لا يراه أحد.
وهنا تكمن عظمة الإنسان: أن يبكي دون خوف، أن يفرغ ما في قلبه من ألم أو فرح، وأن يترك الدموع تأخذ مكانها الطبيعي في دورة حياته، كالمطر الذي يروي الأرض.
وبقدر ما تكون هذه الدموع ساخنة وحارقة، بقدر ما يكون داخلنا مليئًا ببراكين العذابات والأحزان، التي ستنفجر إذا لم تُفرغ. هنا يظهر البكاء كنعمة ورحمة من الله، هدية للإنسان، وسلاح للتوازن النفسي، وطريقة لإعادة اكتشاف الذات.
ففي كل دمعة حقيقية تتعلم الروح أن تشرق مرة أخرى، وتبدأ دورة جديدة من الفهم والحياة والحب.
الدموع تحمل معها عناصر الخلود: فهي تخبرنا أن الحياة ليست مجرد صبر وتحمل، بل هي تجربة كاملة، مليئة بالتناقضات الجميلة: الحزن والفرح، الفقد واللقاء، الوداع والترحيب، الألم والسكينة. وكل دمعة هي شهادة على أن الإنسان حي، أنه يشعر، أنه عاش، وأن قلبه قادر على الانكسار ليُعيد البناء من جديد.
الدموع تتيح لنا أيضًا فرصة لتواصل صادق مع الآخرين.
فالعين التي تبكي أمام شخص يفهمها، تقرب القلوب وتفتح أبواب التعاطف والحب.
وهي لغة مشتركة، لا تحتاج إلى ترجمة، يفهمها الصغير والكبير، العاقل والمجنون، المؤمن والباحث عن معنى.
إنها أصدق تعبير عن النفس البشرية، لأنها تُظهر ما هو مخفي عادةً، ما هو أعمق من الكلمات، وأصدق من الابتسامات المعلبة، وأقوى من أي حجة عقلية.
والأهم من كل ذلك، أن العين التي تبكي تخلق وعيًا داخليًا، وتعيد ترتيب القيم، وتمنح الشخص القدرة على رؤية ما هو حقيقي وما هو زائف، ما يستحق العناء وما يستحق النسيان. دمعة واحدة قد تغيّر منظور الحياة بأكملها، قد تهدئ قلبًا مضطربًا، وقد تمنح فرصة جديدة للحب، للسلام، للخلق، للإبداع. إنها لحظة اتصال بين الأرض والسماء، بين الجسد والروح، بين الألم والنور.
الدموع ليست مجرد ماء، بل هي سحر داخلي، رسالة من الروح، وعين ثانية ترى ما لا تراه العيون العادية.
العين التي تبكي ترى أعمق من أي عين أخرى، تشعر بما يخفى عن الجسد والعقل، وتلمس الروح الإنسانية الحقيقية، التي تبحث عن التوازن بين ما هو محتمل وما هو مستحيل، بين ما نملك وما فقدنا.
في النهاية، كل دمعة هي درس، وكل بكاء هو رسالة، وكل حزن هو بداية لشروق جديد.
العين التي تبكي تعلمنا أن الحياة ليست مجرد يوميات صامتة، بل هي رحلة غنية بالعواطف، مليئة بالمعاني، وأن من يبكي يستطيع أن يرى بوضوح، أن يحب بصدق، وأن يعيش حياة تتسع لكل شيء: للحزن والفرح، للفقد واللقاء، للوداع والتحية، للحب والخسارة، للحياة والموت.
إنها رحلة الإنسان الحقيقي، الذي يعرف أن الدموع ليست نهاية، بل هي البداية.