سماحة سليمان تكتب لـ «30 يوم» : بذور الشر بداخلنا

يقول المثل القديم: “لا تُرمى بالحجارة إلا الشجرة المثمرة”.
لكن، هل للشجرة المثمرة ذنب لأنها أعطت ثمارها؟
الحقيقة أن رمي الحجارة للشجرة المثمرة يكشف لنا وجهين:
وجه الانتفاع: حين تُرمى لاستخراج ثمارها وأكلها، بدافع الحاجة أو الرغبة بالانتفاع مما تقدمه.
وجه الحقد: حين تُرمى بدافع الغيرة والكره، لأن ثمارها تُذكّر من لا يملك أنها تعطي بينما هو عقيم. هنا يتحول الرمي إلى تفريغ للشر الكامن في الداخل.
وهذا يقودنا لفكرة أعمق: أن بذور الشر لا تسقط من السماء، بل هي مزروعة في نفوس الناس، تكبر حين يُسقونها بالغيرة والحقد والحسد.
من هو الجاني الأول؟ ومن زرع تلك البذرة؟
الجاني الأول مش دايمًا إنسان — أحيانًا هو الخوف أو الاعتقاد القديم الذي ورثناه أو خلقناه بأنفسنا.
الجاني الأول هو أي صدمة أو كلمة جعلتنا نقبل قصتنا كنهاية بدل أن تكون بداية.
إحساس الفشل لا يظهر فجأة، بل هو نتيجة تراكم عوامل: كلمات، مواقف، نماذج وتجارب. عند التحليل، نجد مجموع الجهات التي لعبت دورها:
البيئة الأولى: تكرار عبارات التقليل أو المقارنة في البيت يخلق إطارًا معرفيًا يربط القيمة بالإنجاز. الطفل لا يرفض الكلمة، بل يتقبّلها كأساس للحكم على نفسه.
الرسائل العائلية الضمنية: ليس فقط ما قيل، بل ما لم يُقال — التجاهل، توقعات غير واقعية، أو تحفيز مشروط — كلها تسهم في إحساس دائم بالنقص.
التربية بالمقارنة: عندما يصبح تقييم الفرد مرهونًا بمقاييس الآخرين، ينشأ اعتقاد مركزي: «القيمة مرتبطة بالنتيجة»، وهذا يهيئ تربة خصبة لبذور الحسد والاحتقار الذاتي.
المجتمع ووسائل التواصل: تحول الإنجاز لعرض مستمر يجعل المقارنة حالة افتراضية دائمة، ويحوّل الفشل لمعيار مرئي يزيد من ضغط الشعور بالعجز.
التجارب المتكررة: فشل متكرر أو تجربة إحباط مؤلمة قد تُبنى عليها سردية عامة: «أنا فاشل»، بدل أن تُقرأ كحدث عابر.
الخندق النفسي الداخلي: أصوات داخلية تثبت الأحكام وتعيد بثها، فتعمل كمعمل يُكثّف المشاعر السلبية ويحفظها.
الفاعل الأول ليس دومًا فردًا محددًا، بل غالبًا تركيب: رسالة مكررة + تجربة محطّمة + نظام قيم اجتماعي + صوت داخلي. أحيانًا تكون الكلمة الحادة سببًا، وأحيانًا تراكمات من الإهمال أو التوقعات.
كيف يظهر الشر داخلنا؟
الشر لا يطرق الباب بصوت عالي، بل يتسلل في سلوكيات صغيرة:
كلمة عابرة جارحة: نقولها بسخرية أو تهكّم، لكنها تترك ندبة في الآخر.
نظرة غيرة: تتحوّل من إعجاب إلى احتقار مبطّن.
فرح خفي بسقوط غيرنا: شعور داخلي بالراحة عند تعثر شخص ناجح.
تعمّد التقليل من إنجاز الآخرين: بدل الاعتراف بالقيمة، ننسب الإنجاز للحظ أو الظروف.
هذه التفاصيل البسيطة هي إشارات أن البذرة بدأت تنمو.
كيف نكتشف أننا نحمل بذور الشر؟
الاكتشاف أصعب من الظهور، لأن البذرة تلبس أقنعة:
تبرير: نقول “أنا واقعي” بينما نحن ساخرون من إنجاز الآخرين.
إسقاط: نتهم غيرنا بالغرور، بينما الغرور فينا.
تكرار المقارنة: نقيس خطواتنا دومًا بخطوات غيرنا، ونشعر بالغضب من الفارق.
المبالغة في النقد: النقد يغطي مشاعر غير معلنة من الغيرة أو الحقد.
المفتاح: الشر نادرًا ما يُرى مباشرة، لكنه يُكشف من أثره. إذا أثار وجود الآخر فيك كرهًا غير مبرَّر أو رغبة في تقليله، فالبذرة موجودة.
الشر كبذرة داخلية
الشر ليس كيانًا خارجيًا يطاردنا، بل بذرة صغيرة داخلنا. قد تكون غيرة بسيطة أو كلمة غير محسوبة. لكن الخطر الحقيقي ليس في وجودها، بل في تجاهلها.
حين نتجاهل البذرة، تبدأ بالنمو في صمت، تتحول الغيرة إلى حسد، ثم إلى حقد، ثم إلى رغبة واعية في الأذى. والمفارقة أن أول ضحية لها هو صاحبها نفسه:
يعيش في مقارنة مستمرة.
يرى نجاح الآخرين تهديدًا.
يستهلك طاقته في الكراهية بدل البناء.
الشر هنا لا يؤذي الآخرين فقط، بل يلتهم صاحبه قبل أي أحد.
تصحيح المسار
التصحيح يبدأ من لحظة الوعي: الاعتراف بوجود البذرة وأثرها في نظرتنا وسلوكنا.
الوعي لا يقتل الشر، لكنه يوقف تمدده. بعدها يبدأ التحويل:
ملاحظة الأثر: مراقبة مشاعر الغيرة أو الحقد دون إنكار.
فهم الجذور: سؤال النفس عن مصدر هذه المشاعر.
إيقاف السلوك الصغير: الامتناع عن الكلام المؤذي أو السخرية.
تحويل الطاقة: استخدام المشاعر السلبية كوقود ذاتي، مثل: “نجاحه يزعجني” → “نجاحه يذكّرني بإمكانياتي”.
الخاتمة
الشر الداخلي ليس قدَرًا ثابتًا، بل خيار ومسؤولية.
إما أن نتركه يكبر ويؤذي حياتنا،
أو نواجهه ونحوّله إلى وعي وقوة.
الاختيار لنا، كما هو اختيارنا في التعامل مع الشجرة المثمرة: نرمي الحجارة بحقد، أو نستفيد ونتعلم.