فن و ثقافةكُتّاب وآراء

دكتورة عفاف طلبة تكتب لـ «30 يوم» : الفن في حضرة القانون

الفن هو أحد أهم أدوات القوة الناعمة التي تساهم بشكل فعال في تشكيل وجدان وعقل المجتمع من خلال رسائله المجتمعية التي تبث عبر منصة الفن سواء من خلال السينما أو المسرح أو التلفزيون أو الرسم والموسيقي.

من خلال الفن نستطيع ترسيخ القيم الجمالية في المجتمع فالفن من النظرة الفلسفية هو شكل من أشكال الوعي المجتمعي ، وللفن ايجابياته وسلبياته لذا لابد من وجود قانون ينظم سير الفن والفنانين ، وهناك الكثير من القوانين تصاغ من أجل ذلك ، فهناك قانون تنظيم العمل والعلاقات المتبادلة بين الأفراد وبعضهم وبين الأفراد والمؤسسات مثل قانون حق المؤلف والحقوق المجاورة له مثل حقوق الملكية الفكرية ، قانون التنظيم النقابي للفنانين ، قوانين إنشاء الجمعيات والأكاديميات مثل قانون أكاديمية الفنون ..الخ.

وأنا لا أتفق مع الآراء التي تذهب إلي أن القانون يقيد حرية الإبداع والتعبير ، فممارسة الحرية يجب ألا يكون مخالفا للدستور والنظام العام والخروج علي الآداب العامة أو المساس بالمصالح العليا للدولة ، فالدستور في مادته العاشرة أكد علي أن الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق والوطنية وتحرص الدولة علي تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها ، ومن ثم فدور القاضي استبعاد النصوص التشريعية المخالفة للدستور والتي تظهر في حيثيات الأحكام والتي يوضح فيها القاضي الأسباب التي أنتهي لها الحكم وذلك من أجل حماية أطراف الدعوي ، والقانون بالرغم أنه يغلب في النهاية حماية الأسرة والمجتمع علي حرية الإبداع إلا انه في كثير من القضايا يؤكد علي هذه الحرية موضحا أن الحق فيها ضرورة في أي مجتمع ديمقراطي وأن أي تقييد يجب أن له معايير صارمة تبرره.

وتذهب بعض الأراء أن القانون علم وفن فهو علم اجتماعي يبحث سلوك الفرد والمجتمع وفن لأنه يحتاج في كثير من الأحيان الي صياغة فنية تتبني وجهات النظر المختلفة وهذا يحتاج الي عنصر هام لتحقيقه هو ( المرونة Flexibility).

وقد أكد الفنان الراحل خالد صالح علي هذا العنصر حيث قال إن دراسته القانونية في كلية الحقوق قد أضافت الي أداؤه الفني ثقل ابداعي كبير والذي تأثر فيه بفكرة المرونة فكل طرف من أطراف القضية له وجهة نظر ومن ثم يجب علي المسؤولين سواء فنانين أو قانونيين أن يتمتعوا بقدر كبير من المرونة لكي يروا الحقيقة مجردة وتبني وجهات النظر المختلفة، كما أكد علي ضرورة إلمام الفنانين ببعض القواعد القانونية التي تفتح أمامهم آفاق من المعرفة يكون لها تأثير في أداؤهم الفني.

والعلاقات الإنسانية منذ أن خلق الإنسان مبنية على القواعد القانونية التي تربط الفرد بالمجتمع ، ولابد لكل فرد سواء فنان أو غيره أن يكون له قدر من الثقافة القانونية ليدرك ماله من حقوق وماعليه من واجبات.

وأعود مرة لأهمية الفن في المجتمع فالدول تتقدم بالفن ويقول في ذلك الكاتب الكبير محمد السلماوي أن تاريخ الفن صنعته القوة الناعمة وليست الجيوش ، ويقول عالم الآثار المصرى زاهي حواس أن الفراعنة كانوا يبجلون الفن والفنانين وظهر ذلك جليا علي الرسومات والنقوش علي جدران المعابد كما كان للعدالة والقانون نصيب كبير في حضارة قدماء المصريين فنجد مثلا صورة ( ماعت ) ربة العدالة والحق والذي اشتق منها صورة سيدة العدالة (Lady Justic) ربة العدالة عند الرومان والتي تتزين بها الصروح القضائية حول العالم عبارة عن إمرأة تحمل في أحد يديها ميزان العدالة واليد الأخري سيف الحق ومعصوبة العينين للتعبير عن حياد العدالة ونزاهتها.

وعن العلاقة بين الفن والقانون أبدع الكثير من الكتاب والمخرجين والفنانين والفنانات في التعبير عن المشكلات والقضايا القانونية الموجودة في مجتمعنا ، فنجد مثلا المجموعة القصصية للكاتب والأديب المبدع توفيق الحكيم بعنوان ( عدالة و فن ) والذي يعتبر الجزء الثاني من يوميات نائب في الأرياف يحكي فيها عن حياته عندما كان نائبا وذلك في إطار فني شيق ومثير ،حيث كانت المحكمة والقضية من وجهة نظره رواية فنية أشبه بالمسرحية حيث يجلس القضاه ( هيئة المحكمة ) علي منصة ويجلس الجماهير أمامهم علي مقاعدهم في قاعة تشبه قاعات المسرح ،وتتوالي جلسات المحاكمة في الرواية في حوارات تشبه حوارات المسرح ، استطاع الكاتب من خلال هذه القصة تجسيد صورة القاضي والمحامي والمتهم والشهود بصورة واقعية وأحداث تشبه الي حد كبير الأحداث التي تدور داخل المحكمة ، وهي تعتبر إسقاط علي الكثير من الثغرات القانونية التي توجد في بعض القضايا وتؤثر بشكل كبير في القضية.

وفي هذا السياق برز أيضا واحد من ألمع مخرجي السينما المصرية المخرج العالمي يوسف شاهين وهو من أبرز المخرجين الذين اهتموا بالقضايا العمالية حيث كان أول من ألقي الضوء علي هموم فئة مهمشة من المجتمع هم فئة ( الشيالين) في محطات القطار والتي جسدها الفنان الكبير فريد شوقي في دور ( أبو سريع) حيث نادي في الفيلم بضرورة إنشاء نقابة للشيالين تحمي حقوقهم وتحل مشكلاتهم وبالفعل بعد عرض هذا الفيلم بثلاث سنوات تأسست رابطة الشيالين في محطتي مصر والجيزة الذين طالبوا بادراجهم ضمن العاملين بالسكة الحديد ليصبح لهم دخل ثابت.

وهناك افلام كثيرة أخرى تطرقت لقضايا يعاني منها الأفراد في المجتمع كان لها تأثير كبير في سن قوانين جديدة وتعديل أخرى حيث استجاب المشرع المصري للتأثير الكبير الذي أحدثته هذه الأعمال مثل : فيلم ( جعلوني مجرما ) بطولة فريد شوقي ويحي شاهين التي كانت سببا في صدور قانون ينص علي الإعفاء من السابقة الأولي في الصحيفة الجنائية حتي يتسني لمن يطلق سراح بدء حياة جديدة كمواطن صالح في المجتمع.

فيلم ( أريد حلا) بطولة الفنانة الكبيرة فاتن حمامة والذي اعاد النظر في قوانين الأحوال الشخصية وسمح لها بالخلع بعد ان كانت تعاني في المحاكم للحصول علي الطلاق.

فيلم ( كلمة شرف ) للفنان فريد شوقي وأحمد مظهر والذي كان سببا في تعديل بعض القوانين لإعطاء السجين الحق في زيارة أسرته بضوابط محددة.

كما تناولت بعض المسلسلات التلفزيونية الكثير من القضايا الشائكة اجتماعية ، سياسية ..الخ.

فنجد مثلا مسلسل مع سبق الاصرار والتي برعت في دور المحامية فيه الفنانة غادة عبد الرازق والتي اكدت في حديث لها انها لم تشعر اثناء أدائها التمثيلي بالبعد عن القواعد القانونية حيث كان والدها يعمل مستشارا بمجلس الدولة ، بالإضافة إلي تواصلها مع اصدقائها المحامين لمعرفة الجوانب الخاصة بالمرافعات وغيرها من المسلسلات مثل الميزان وهي ودافنشي ..الخ
والتي كانت بمثابة مرآة للواقع المجتمعي والمشكلات القانونية التي يواجهها الافراد داخله.

الفن ياسادة سلاح ذو حدين فقد يكون أداة للهدم أو أداة للبناء وعلي الفن والفنانين الاستمرار في توظيف الفن لخدمة المجتمع والوطن والقانون ، وإنتاج نصوص سينمائية ومسرحية وتلفزيونية تعرض المشاكل القانونية والقضائية التي يعاني منها الافراد وتوعيتهم وإرشادهم بكيفية التعامل معها ومعرفة حقوقهم وواجباتهم ليظل الفن دائما في حضرة القانون.

موضوعات ذات صلة 

دكتورة عفاف طلبة تكتب لـ «30 يوم» : زيارة ماكرون لمصر صفعة في وجه قوى الشر

أ.د عفاف طلبة تكتب .. التطبيل .. أم النحيب؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى