
ذكر الله في كتابه العزيز الجبال في أكثر من أربعين موضعاً تتحدث عن صفاتها ووظائفها وخصائصها، وتدعو إلى التأمل فيها والتدبر في كيفية خلقها، وتشير إلى شيء من عظيم قدرة الله في تكوينه لها، وشدة بنائها، كما تتحدث عن مصيرها ومآلها يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات، وكيف تتحول هذه الجبال مع عظمتها وقوة خلقها هباء منبثاً وكالعهن المنفوش. فهي من مخلوقات الله العظيمة…
يقول الكاتب والداعية الإسلامي المتخصص في التاريخ والفكر الإسلامي وتفسير القرآن الكريم، والذي شغل منصب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وولد في مدينة بنغازي في ليبيا 1963م عن الجبال:
سجود الجبال لله تعالى:
ذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [سورة الحج: 18]، فهذه الآية عامة في إثبات السجود لله تعالى من جميع الكائنات، والعطف يفيد أنها جميعاً عابدة لله تعالى، فأما الكيفية فلا يعلمها إلا هو سبحانه.
يقول ابن كثير رحمه الله عن سجود الجبال: “وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل”.
القرآن تحدث عن الجبال بما لم يتصوره باحث، أو يقف عليه دارس، إنه حديث عن عبودية هذه المخلوقات لربها وخالقها سبحانه، وذلها -على عظمتها وصلابتها- بين يدي موجدها وبارئها
تسبيح الجبال:
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 79]، وقال تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سورة سبأ: 10]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ [سورة ص: 18]. فالتسبيح في الآيات السابقة هو على الحقيقة، فقد جعل الله سبحانه لها إدراكاً تسبّح به، واقترانها بالتسبيح مع داوُد عليه السلام وتسخيرها لذلك هو من باب إظهار معجزة هذا النبي عليه السلام، وكذلك استئناساً وإعانة له على التسبيح؛ بحيث تردد معه تسبيحه أو تسبح هي بأمره لها، فجعلها الله عز وجل مُسخَّرة لأمره عليه السلام، فالنداء في قوله تعالى: “يا جبال” للخطاب لمن يُدرك. ونورد هنا أقوال بعض العلماء: قال القرطبي رحمه الله: ذكر الله تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة؛ وهو تسبيح الجبال معه، قال مقاتل: كان داوُد إذا ذكر الله عز وجل ذكرت الجبال معه، فكان يفقه تسبيح الجبال. ثم قال رحمه الله: وإن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال، وكان عند طلوع الشمس وعند غروبها.
خَشية الجبال:
قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [سورة الحشر: 21]. فالله عز وجل يذكّر الناس بخشيته والخوف منه سبحانه، وذلك باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، فيضرب الله تعالى مثلاً بقياس الأولى؛ فالجبل مع صلابته ومع افتراض نزول القرآن عليه فإنه يخشع لله تعالى، فالبشر مع تفضيل الله تعالى لهم على كثير من الكائنات أولى بأن يكونوا أكثر لله تعالى خشية. يقول محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: فدل هذا كله على أنه تعالى وإن لم ينزل القرآن على جبل، لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى: “خاشعاً متصدعاً من خشية الله”. كما -ذكر رحمه الله تعالى-أمثلة أخرى لهذا التصدّع للجبال من خشيتها لله عز وجل، فيقول: وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أقل من هذا التصدع في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [سورة الأحزاب: 72]. فهذا نص صريح بأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة، وهي أمانة التكليف بمقتضى خطاب الله تعالى لها، فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت بها؟
إن القرآن تحدث عن الجبال بما لم يتصوره باحث، أو يقف عليه دارس، إنه حديث عن عبودية هذه المخلوقات لربها وخالقها سبحانه، وذلها -على عظمتها وصلابتها- بين يدي موجدها وبارئها، بل إنها لتندك لتجلّي ربها إعظاماً وإجلالاً وذلاً وخوفاً، كما في قصة موسى عليه السلام عندما قال: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الأعراف: 143].
وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك، وقال بعضهم: “جعله دكاً” أي: فتّته. وقال مجاهد في قوله: “ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني”، فإنه أكبر منك وأشد خلقاً، “فلما تجلى ربه للجبل” فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخرّ صعقاً.