د. كريم نفادي يكتب لـ «30 يوم» : المنهج الوسطي المعتدل في التعامل مع الفتن والصراعات

من سنن الله تعالى في المجتمعات أن تمرّ بمراحل من الاضطراب والاختلاف، وقد سماها الشرع “فتنًا”، لأنها تمتحن القلوب وتكشف عن معادن الناس.
قال رسول الله ﷺ: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي…».
وهذه الفتن قد تكون صراعات سياسية، أو نزاعات فكرية، أو اقتتالًاداخليًّا(حروبًا أهلية)، وفي كل الأحوال، لا يُنجي من الانجراف وراءها إلا التمسك بمنهج وسطي معتدل، يحفظ الدين، ويصون الدماء، ويجنب الأمة الانقسام.
والوسطية هنا ليست شعارًا فضفاضًا أو سلبية فكرية، بل هي ميزان في تناول الأمور، فلا إفراط في الغلو والتشدد، ولا تفريط في الاستسلام والانهيار، ومن ثمّ كانت الأمة الإسلامية أمة وسطًا كما قال تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: 143).
معنى الوسطية في سياق الفتن:
الوسطية:تعني الاستقامة بلا ميل إلى الغلو أو الجفاء، والوسط هو العدل الذي لا يميل إلى طرفي الإفراط والتفريط، كما نحا لذلك ابن تيميةفي مجموع الفتاوى.
ففي زمن الفتن، حيث يعلو صوت الشحناء وتختلط الأوراق، تظهر قيمة الوسطية؛ فهي البوصلة التي تحمي من الانزلاق وراء العاطفة أو العصبية، وهي لا تعني الوقوف في المنطقة الرمادية دون موقف، بل تعني الثبات على المبادئ الكبرى: العدل، حفظ الدماء، نصرة الحق، مع الحكمة في تنزيلها على الواقع.
معالم المنهج الوسطي في التعامل مع الفتن والصراعات:
- الرجوع إلى الوحيين عند الاختلاف، وهذا المعيار هو أول معالم الاعتدال عند النزاع، بعيدًاعن الهوى أوالمصلحة الحزبية.
قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59).
فالرجوع إلى الدليل الشرعي هو الحصن المنيع من الافتراق، فمن تركه ضلّ واضطرب،كما قررالإمام الشاطبي في الاعتصام؛ وعليه فالمنهج الوسطي يردّ الأمور إلى الوحي، وليس إلى السلاح أو السباب.
- العدل والإنصاف مع المخالف، كما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8).
فالإنصاف في زمن الفتن أوضح ما يميز أهل الوسطية عن أهل الأهواء مع صعوبته على النفوس، والمنهج الوسطي لا يسمح بأن يُستباح عرض الخصم أو دمه لمجرد الخلاف، بل يقيم الحجة بالعدل، ويزن الأمور بالقسط.
- ومن أبرز معالم الاعتدال في الصراعات: تفضيل الإصلاح على الاقتتال،وتقديم السلم والصلح على المواجهة،كما قال تعالى:﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا﴾ [الحجرات: 9].فالآية تؤسّس لثلاثية: السعي إلى الصلح أولًا، وردّ البغي عند الضرورة بضوابط، ثم العودة إلى العدل.
فقدفرض الله على المؤمنين إذا اقتتلوا أن يسعوا في الصلح بينهم بالعدل، لا بالميل مع فريق على فريق، كما نحا لبيان معنى الآية الإمام الطبريفي تفسيره الطبري.
فالمسلمالمعتدل لا يفرح بتأجيج نار الحرب، بل يسعى ليكون جسرًا للتهدئة، ونشر الإصلاح بين المتخاصمين.
- تغليب المصلحة العامة ومقاصد الشريعة؛ فلا يُضحّى بالدين أو الدماء في سبيل شعارات أو نعرات عصبية أو مذهبية منتنة، فالمصالح المعتبرة شرعًا هي التي تُحفظ بها مقاصد الشرع الخمسة: الدين، النفس، العقل، النسل، المال،كما قرر الإمام الشاطبيفي سفره العظيم (الموافقات).
ومن أعظم القواعد المقاصدية التي قررها الإمام الغزالي في التحذير من التورط في الصراعات التي تفضي إلى سفك الدماء: “درء مفسدة سفك الدماء مقدم على جلب كثير من المصالح الظنية”. (إحياء علوم الدين).
- الصبر والحكمة في زمن الاضطراب ليس دليلا على الجبن أو الضعف، بل يدل على التأني والتبصر، وهذا ما قرره النبي ﷺ:«إنها ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي…».
إن الإقدام في الفتن بلا بصيرة يورّط صاحبه في الباطل،فالمنهج المعتدل ليس اندفاعًا أعمى، ولا جبنًا يجلب العار، بل هو صبر واعٍ وحكمة رشيدة، تحفظ الإنسان من التورط في الدماء بأي شكل من الأشكال.
- ومن خصائص الوسطية ضبط العاطفة بالعلم، لأن العاطفة لا ينبغي أن تقود القرار، بل ينبغي ضبطها بالعلم والشرع؛ فمن اتبع عاطفته بالجهل كان ما يفسده أكثر مما يصلحه كما ذكر ابن تيمية في المجموع، والمنهج الوسطي يوازن بين حرارة الغيرة على الدين، وبرودة الحكمة المستندة إلى الدليل.
- رفض منطق التكفير والتخوين؛ فمن أبرز انحرافات أهل الغلو في زمن الفتن سرعة تكفير المخالف أو تخوينه، أما المسلم الوسطي فيقدمقاعدة: “الخطأ لا يستلزم الكفر”، وقد قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في الخوارج:”من الكفر فروا”، فلم يكفرهم رغم بغيهم، بل عاملهم معاملة أهل القبلة.
- المرجعية العلمية والجماعية: لا يُدبَّر أمرُ الفتن بمزاج الأفراد أو منصّات الدعاية، وإنما بمرجعية العلماء والمؤسسات المؤتمنة على الشأن العام.
أمثلة تاريخية للوسطية في زمن الفتن
- موقف عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما)
اعتزل ابن عمر القتال التي نشبت في عهده، وقال: “من قال حي على الصلاة أجبته، ومن قال حي على الفلاح أجبته، ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلت: لا”، وهذا الموقف يعكس فقه الوسطية،وهو التمسك بالعبادة، ورفض المشاركة في أي صراع دموي.
- سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) ترك القتال في أحداث الفتنة الكبرى، وقال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيفٍ له عينٌ ولسانٌ يعرف المؤمن من الكافر»، وهذه صياغة بليغة لقاعدة التحوّط في الدماء.
- أبو بكرة نفيع بن الحارث (رضي الله عنه) امتنع عن المشاركة في القتال وقال: «ما يسرني أني في موضع رجلٍ قتل رجلًا من هؤلاء»، وهو إيثار السلامة من الدماء حين تلتبس الرايات.
- عليبن أبي طالب (رضي الله عنه) مع صرامته في ردّ البغي، كان يوصي أصحابه بالعدل وحفظ الحقوق بعد انتهاء القتال؛ فـ«لا تقتلوا مدبرًا ولا تُجهزوا على جريحٍ ولا تَغُلّوا»، هذا تأصيل لقاعدة أخلاق الحرب الشرعية حتى في حال الاضطرار.
- موقف ابن عباس في مواجهة الخوارج
حين خرج الخوارج على الأمة، لم يُبادر العلماء إلى استئصالهم، بل ناقشوهم وأقاموا عليهم الحجة، كما فعل ابن عباس (رضي الله عنه) حين جادلهم بالحسنى والحجة؛ فرجع كثير منهم، وهذا من أعظم صور الوسطية: الحوار قبل السيف أو التكفير.
وهذه المواقف لا تعني تركَ مقاومة الظلم مطلقًا، لكنها تفرض سياجًا من الضوابط: التثبت، والتحرز من الدماء، والرجوع إلى أهل العلم، واعتبار المآلات.
توجهات التابعين وأتباعهم في ترسيخ المنهج الوسطي:
قال الحسن البصري: «اعلموا رحِمكم الله أن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل؛ فكونوا فيها كابن لَبونٍ لا ظهرٌ فيُركب ولا ضرعٌ فيُحلب»، وكلامه فيه تقرير السلامة بالبعد عن أدوات التأجيج والانقسام.
وقالالإمام محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينكم»، ففي سياق الفتن يتأكد تحري مصادر الخطاب.
وقال الإمام الأوزاعي: «اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكفّ عمّا كفّوا عنه»، وهو تأصيل للاقتداء وضبط الانفعال بالعُرف السُّنّي.
ونصّ الإمام مالك على كراهية الخوض في الفتن والوقيعة، وأكد على لزوم جماعة المسلمين وإمامهم بما يُظهر فقه الجماعة والنظام.
كما عُرفالإمام الشافعي بزهده في الدخول في الخصومات السياسية، بل وعدم التعصب الفقهي أو الفكري، وشاع عنه قوله: “قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب”، وهذا المبدأ أصل في التوسط الفكري، ورفض الاستقطاب الحاد.
الإطار المقاصديفي التأصيل للوسطية عند الأئمة المتقدمين والمعاصرين:
1) الشاطبي وتكوين الحسّ المقاصدي
قرّر الإمام الشاطبي أنالمصلحة في الاجتماع والائتلاف، والمفسدة في الفرقة والاختلاف، كما ويرى أن الشريعة ما وُضعت إلا لتحصيل المصالح ودرء المفاسد، وأن سدّ الذرائع واعتبار مآلات الأفعال من لوازم الفقه الرشيد،وهذه القواعد تشكّل البنية التحتيّة للوسطية زمن الفتن: تعظيمُ مقاصد الحفظ (الدين، النفس، العقل، النسل، المال) مع مراعاة التراتبية والاجتماع.
2) ابن تيمية وفقه التوازن:
يقرر ابن تيمية أن أكثر ما تُفسد الدنيا من وجهين: فعل ما لا ينبغي، وترك ما ينبغي، وفي السياسة الشرعية يوازن بين تحصيل أدنى المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين، ويرفض تغيير المنكر بما هو أنكرُ منه،وهذا يُقيم حاجزًا وقائيًّا ضد اندفاعات الفتنة.
3) ابن عاشور وتوسّع دائرة المقاصد:
طوّر الطاهر ابن عاشور رؤيةً مقاصديةً واسعة تبرز حفظ نظام الأمة ضمن مقاصد الشريعة الكلية، وأن الاختلال العام مفسدةٌ عظيمةٌ ينبغي درؤها، ويُفهم من تقريره أن السِّلم الأهليّ مقصدٌ لازم، وأن شرعية الوسائل السياسية تُقاس بمآلاتها على سلامة الجماعة.
4) علال الفاسي وتكامل المقاصد:
يؤكد علّال الفاسي أن المقاصد ليست حصرًا في الضروريات الخمس، بل تشمل مكارم الأخلاق ومصالح العمران، وأن العدل والحرية من صميم المقصد، وفي زمن الفتن، العدلُ والكرامة صمّام أمان لئلا يتحول الإصلاح إلى صراعٍ صفريّ.
5) ويؤكد نور الدين الخادمي أن المقاصد منهاجٌ في الفتوى والسياسة الشرعية يقدّم السِّلم الأهلي على المكاسب الوقتية.
وللأزهر الشريف تراثٌ حديث في ترسيخ الوسطية ومكافحة العنف، وهذا يتجلى فيخطابات شيوخ الأزهر المعاصرين في ضبط الفتن، ومنها:
- الشيخ محمود شلتوت، حيث قرّر في الإسلام عقيدة وشريعة أن حفظ الدماء والأموال والأعراض مقاصدٌ قطعية، وأن الاختلاف لا يبرر العدوان، داعيًا إلى فقهٍ يُرجِّح الإصلاح على الخصومة.
- دعاالشيخ محمد مصطفى المراغي في خطاباتٍ عامة إلى وحدة الصف وحرمة استغلال الدين في الشحن، مؤكدًا دور العلماء في تهدئة المجال العام.
- ركّزالشيخ عبد الحليم محمود في رسائله على تهذيب النفس وإطفاء نوازع الغلو بوصفها بوابةَ الفتن، وأن المجاهد الحقيقي «من جاهد نفسه» قبل غيره.
- شدّدالإمام جاد الحق علي جاد الحق في سلسلة بيان للناس على تجريم العنف باسم الدين، وأن الإصلاح يقوم على العدل وسيادة القانون، لا على الاستطالة على الدماء.
5.دعم الشيخ محمد سيد طنطاوي خطّ الاعتدال في الفتاوى المعاصرة، مؤكدًا أن صيانة المجتمع من الفوضى مقصدٌ شرعي، وأن الخلاف السياسي لا يُحلّ إلا بأدواتٍ سلميةٍ مشروعة.
- أعادالإمام الأكبر أحمد الطيب (حفظه الله) في خطابات الأزهر و«وثائق الأزهر» التأكيد على السِّلم المجتمعي، وحرمة التكفير، وضرورة التوافق الوطني، وأن حراسة السلم الأهلي واجبٌ دينيٌّ ووطنيّ.
وهذه الخطابات تعكس انتقال الوسطية من التنظير إلى البيان المؤسسي، وتؤكد أن معالجة الفتن تتطلب شبكة قيمٍ تتداخل فيها الفتوى، والتربية، والخطاب العام.
معوقات الوسطية في زمن الفتن:
- العصبية الحزبية أو القبلية، التي تجعل الهوية مقدمة على العدل.
- الجهل بالشرع، إذ يظن كثيرون أن التهور بطولة.
- الإعلام الموجَّه، الذي يؤجج الانفعالات ويغذي الانقسام.
- ضعف البصربالمآلات، فالنظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعًا كما قرر الشاطبي في الموافقات.
ثمار المنهج الوسطي:
- حفظ وحدة الأمة وعصمتها من التمزق الذي يُغري الأعداء.
- حماية الدماء: قال رسول الله ﷺ: «لزوال الدنيا أهون على اللهمن قتل رجل مسلم».
- تجنيب الشباب الغلو: فالوسطية تربي على التوازن، فلا يقع الشباب فريسة للتيارات المتطرفة.
- إقامة الحجة الشرعية: فلا يُتّهم الإسلام بالتشدد ولا بالتفريط، بل يظهر بصورة العدل.
- تعزيز التعايش: المنهج الوسطي يفتح باب الحوار مع المخالفين، ويمنع الانغلاق.
6- تعزيز قيم الحوار والتعايش مع المخالف.
7- إقامة الحجة الشرعية على الجميع بميزان عادل لا يميل مع الهوى.
خاتمة
إن المنهج الوسطي المعتدل في التعامل مع الفتن والصراعات ليس ترفاً فكريًّا، بل هو ضرورة دينية واجتماعية، فقد جاء الإسلام بمنهج وسطي فريد يوازن بين الثبات على المبادئ، والمرونة في تنزيلها على الواقع، بعيدًا عن العنف أو الاستسلام،فهو المنهج الذي يحفظ للأمة وحدتها، وللدين صفاءه، وللناس دماءهم وأعراضهم، وهو يجمع بين الثبات على المبادئ الكبرى التي جاء بها الوحي، والمرونة في تنزيلها على الواقع بفقه الموازنات والمقاصد.
فالوسطيةفي الإسلام ليست وقوفًا في منتصف الطريق بلا موقف، وليست حيادًا سلبيًّا يساوي بين الظالم والمظلوم، وإنما هي الاعتدال المبدئي؛ أي النظر المتزن الذي يحفظ للإنسان دينه ودنياه معًا.