توبفن و ثقافةكُتّاب وآراء

د. كريم نفادي يكتب لـ «30 يوم» : تعنيف الباحثين في المناقشات العلمية .. حين تتحول القاعات لمحاكم تفتيش!

لم يعد المرء يتعجب كثيرًا وهو بقاعات المناقشات العلمية في جامعاتنا، فالمشهد صار مألوفًا:

الباحث الشاب يقف أمام لجنة مهيبة، تتراصّ فيها وجوهٌ جامدة، وقلوبٌ متحفزة، وأصواتٌ مُدججة بعُقد السلطة، وليس بروح العلم.

يقدّم الباحث جهده وسنين عمره، ثم يتحوّل الموقف في لحظاتٍ إلى ساحة تفتيش، وليس إلى حوارٍ علمي راقٍ.

هنا تبدأ رحلة الإهانة، وتُشهر ضدّه أسلحةٌ لا تمتّ إلى النقد العلمي بصلة؛ فبدل أن يُسأل عن منهجه ومصادره، يُحاكم على نواياه، وبدل أن يُناقش نصّه، يُستجوب ضميره، وبدل أن تُراجع فصول الرسالة، تُفتح دفاتر العقيدة.

كم مرة شهدتُ باحثين يُسألون في لجان الماجستير أو الدكتوراة عن قضايا عقدية لا علاقة لها بموضوعاتهم!

كأن أحدهم يقرأ في نوايا الباحث أكثر مما يقرأ في رسالته، باحث كتب في الفكر الإسلامي مثلًا، فإذا بأحد المناقشين يترك كل الإشكالات المنهجية، ويسأله بحدة: «هل تؤمن بكرامات الأولياء؟»!

أتذكر مشهدًا لا يُمحى من ذاكرتي في إحدى الجامعات العريقة، حين وقف باحث شاب في منتصف الثلاثين، يحمل رسالة عن مفهوم الوسطية في الفكر الإسلامي الحديث، أمضى سبع سنواتٍ من عمره بين الكتب، وكتبها بضميرٍ حيّ، يحاول فيها أن يُوازن بين النص والعقل، وبين الأصالة والمعاصرة، لكنه ما إن بدأ الدفاع عن أفكاره، حتى تلقّى أول رصاصة لفظية من أحد الأساتذة قائلًا: «أنت بتتكلم كأنك ليبرالي متخفّي! هل هذا فكر أزهري؟!»

ضحك بعض الحضور، وأحسّ الباحث ببعض الحرج، فالسؤال لم يكن علميًّا، بل كان اتهامًا مستترًا بالعقيدة، وبالخيانة الفكرية، ثم أردف الأستاذ المناقش بعبارات أكثر قسوة.. عندها أدركتُ أن القاعة لم تعد قاعة علم، بل صارت محكمة تفتيشٍ بامتياز.

في تلك اللحظة لم أعد أرى الأوراق أو الشهادات المعلقة على الجدران، بل رأيتُ تاريخًا من الكِبْر الأكاديمي الذي يتوارثه البعض جيلًا بعد جيل.

هؤلاء الذين ظنوا أن الألقاب العلمية تمنحهم تفويضًا إلهيًّا لإذلال الباحثين، وأن سلطتهم في القاعة تُعادل سلطة القاضي في المحكمة.

كم من باحثٍ خرج من القاعة باكيًا، ليس لأنه فشل في الدفاع عن أطروحته، بل لأنه أُهين في كرامته الإنسانية!

أذكر أن إحدى الباحثات كتبت أطروحة في مجال التاريخ الإسلامي، تناولت فيها الجانب الحضاري من العصور المتأخرة، محاوِلةً تصحيح النظرة السوداوية التي يكررها البعض، كان موضوعها جادًّا، ومراجعها متنوعة، لكن أحد الأساتذة أوقفها بعد دقائق من العرض، وقال بفظاظة: “هو انتِ فاهمة يعني ايه حضارة؟!”

لم يكن النقد موجّهًا إلى أطروحتها، بل إلى ذاتها، ولم يناقشها في مناهج التأريخ أو أدوات البحث، بل حطّم ثقتها بنفسها أمام الحضور، كأن لسان حاله يقول: «أتجرئين أن تفكّري؟!»

خرجت الباحثة يومها مصدومة من خيبة أملٍ عميقة: كيف يمكن أن تكون الجامعة التي حلمت بها حاضنة للعلم، بهذه القسوة والعدوانية؟

تتكرّر هذه المآسي في أروقة الجامعات المصرية والعربية على السواء، ويروي لي أحد الزملاء أنه حضر مناقشة في إحدى الجامعات الكبرى بالقاهرة، كان فيها المناقش الخارجي يتحدث بحدةٍ ويقاطع الباحث كل دقيقتين، ثم ختم حديثه بقوله: «أنا آسف أقولك إنك لسه بدري عليك تبقى باحث».

لم يكن هذا تقييمًا علميًّا، بل صفعة نفسية قاسية!

لم يخطئ الباحث إلا في أنه دخل إلى القاعة مؤمنًا بأن الجامعة بيتُ العقل، وليس ساحة إذلال.

إن تعنيف الباحثين في المناقشات لم يعد حادثًا فرديًّا، بل ظاهرة متجذّرة في بنية الثقافة الأكاديمية نفسها، فبعض الأساتذة – لا أقول كلهم – ينظر إلى الطالب كخصمٍ يجب إخضاعه، كأنّ نجاح الباحث يقلل من هيبته، أو كأنّ اعترافه بتميّز تلميذه يخصم من رصيده العلمي.

إنها عقدة السلطة حين تتلبّس بالعلم، فتتحول المعرفة إلى وسيلةٍ للهيمنة وليس إلى سبيلٍ للتحرير.

لقد شاهدتُ بعيني مشاهد أقرب إلى الفضيحة العلمية: أحد المناقشين يسبّ الباحث بألفاظٍ غير لائقة داخل القاعة، وآخر يضحك مع زميله أثناء العرض التقديمي للطالب، وثالث يخرج هاتفه ليتفقد الرسائل بينما الباحث يتحدث عن نتائج بحثه!

أي مهانةٍ هذه التي تصيب طالب العلم حين يُداس جهده بهذه اللامبالاة؟!

ومن أخطر ما رأيت، أن بعض المناقشين يتخذ من العقيدة ميدانًا للوصاية على الباحثين، فإذا كتب أحدهم في الفكر أو الفلسفة أو التصوف أو علم الكلام، استنفر بعض الأساتذة ليمتحنوه في نياته وليس في نصّه. يوجهون الأسئلة المحملة بالشبهات: «هل تعتبر ابن عربي إمامًا من أئمة الإسلام؟»، «هل أنت متأثر بالفكر الأشعري؟»، «لماذا لم تهاجم الصوفية في رسالتك؟».

أيّ علمٍ هذا الذي يبدأ بالمحاكمة وليس بالمناقشة؟ أليس من حقّ الباحث أن يختار زاوية نظره دون أن يُصادر عليه فكرُه؟ أليس البحث العلمي مجالًا لتعدد الرؤى والاختلاف المنهجي؟

لقد صار الخوف يسكن قلب كل باحثٍ مقبل على المناقشة، وكثيرون يعدّون أنفسهم قبل الجلسة كما يعدّ المتهم دفاعه في المحكمة: يجمعون المراجع، ويحفظون الأرقام، ويتدربون على الإجابات السريعة، ليس طمعًا في النقاش، بل اتقاءً للإحراج، حتى أن أحد الباحثين قال لي قبل مناقشته: «أنا مش خايف من الأسئلة العلمية، أنا خايف من الطريقة اللي ممكن يكلّموني بيها».

وهذا لعمري أخطر ما يصيب البيئة الأكاديمية: حين يتحوّل الطالب من عاشقٍ للمعرفة إلى خائفٍ من الجلوس أمام أساتذته.

ولا شكّ أن وراء هذه الظاهرة جذورًا نفسية وثقافية معقدة، فالكثير من الأساتذة الذين يعنّفون الباحثين هم أنفسهم كانوا ضحايا تعنيفٍ مماثلٍ في بداياتهم، فيعيدون إنتاج القسوة بدافعٍ لا واعٍ، كأنهم يثأرون لماضيهم في جسد تلاميذهم، إنها حلقة جهنمية من الألم تتوارثها الأجيال الأكاديمية: أستاذٌ أُهين في شبابه، فيُهين اليوم، وغدًا يُهين تلميذه الجديد.

وهكذا، بدل أن تكون الجامعة فضاءً للتسامح العلمي والتواصل الإنساني، أصبحت في بعض أروقتها مسرحًا للتعذيب الرمزي، تُمارَس فيه السلطة تحت ستار العلم.

في المقابل، حين نعود إلى تاريخنا العلمي، نجد أن علماءنا الأوائل كانوا أرحم بالطلاب، وأكثر تواضعًا في النقد.

كان الإمام الشافعي يناقش مخالفيه بأدبٍ جمّ، ويقول: «ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُظهر الله الحق على لسانه».

أما اليوم، فقد أصبح بعض الأكاديميين – مع الأسف – يتعاملون مع المناقشة كفرصةٍ لإثبات الذات، وليس لخدمة الحقيقة؛ يرفع صوته، يقطع حديث الباحث، يلوّح بشهاداته، ينسى أنه يومًا كان في موضعه.

لقد أخبرني أحد الأساتذة الكبار، وهو من القلائل الذين ما زالوا يحافظون على روح العلم، أنه حضر مناقشةً في السبعينيات، كان رئيس اللجنة وقتها أستاذًا معروفًا بتواضعه الجمّ، وبعد أن أنهى الباحث عرضه، قال له الأستاذ بهدوء: «لقد اجتهدتَ وأحسنتَ، وسأناقشك حبًا فيك لا تشفيًا منك».

ثم أخذ يناقشه في كل جزئية بروح الأبوة، وليس روح الخصومة، حتى خرج الطالب من القاعة مكللًا بالفرح والفخر.

قال لي الأستاذ وهو يتحسّر: «يا ليت الجيل الجديد من الأساتذة يفهم أن النقد يمكن أن يكون رحيمًا دون أن يكون ضعيفًا».

إنّ بعض من يعتلي المنابر الأكاديمية اليوم يتحدث عن الأخلاق العلمية، لكنه لا يمارسها، ويكتب في كتبه عن “المنهج الموضوعي” و”روح الحوار”، ثم ينقلب وحشًا حين يواجه باحثًا مختلفًا في الرأي، وينسى أن الكلمة القاسية قد تقتل في الباحث شغفه، وأن السخرية قد تطفئ جذوة الإبداع في قلبه.

لقد رأيت باحثين مبدعين تركوا مجال البحث تمامًا بعد مناقشاتهم الأولى؛ لأنهم لم يحتملوا تلك الإهانات المبطنة: «أنت مش مؤهل»، «ده فكر دخيل»، «أين تعلمت هذا الكلام؟».

كم موهبة دفنتها الغطرسة الأكاديمية!

إنّ ما يحدث في بعض القاعات ليس مجرد انفعالٍ عابر، بل هو اعتداء على فكرة الجامعة ذاتها، الجامعة التي وُلدت لتكون فضاءً للحوار والحرية، تُختطف اليوم أحيانًا على يد من لا يطيقون الحرية الفكرية. والباحث الذي يُفترض أن يكون مجتهدًا مستقلًّا، يُراد له أن يكون صدى لصوت أستاذه، لا صانعًا لصوته الخاص.

تُخنق الأسئلة الجريئة باسم الاحترام، وتُكمم الأفواه باسم التقاليد الأكاديمية، ويُرهب الباحث باسم الدفاع عن الدين أو الوطن أو القيم، بينما هي في الحقيقة دفاعٌ عن الذوات المتورمة بالأنانية.

إن أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تُفسد معنى “العلم” في النفوس، حين يرى الطالب أن الشهادة تُمنح بالولاء وليس بالكفاءة، وأن النقد العلمي يُستبدل بالاستعراض، وأن السلوك الإنساني يُستباح باسم اللقب، يفقد إيمانه بالمؤسسة كلها، يصبح العلم عنده قشرةً بلا روح، وشهادةً بلا قداسة.

أما عن العلاج، فلا يكفي أن نلوم الأفراد، فالقضية بنيوية تحتاج إلى إصلاحٍ عميقٍ في ثقافة الجامعات.

ينبغي أولًا أن نعيد تعريف “المناقشة العلمية” ليست كميدان إخضاع، بل كجلسة حوارٍ راقٍ بين أهل العلم، ينبغي أن يُلزم أعضاء اللجان بميثاقٍ أخلاقي يحدد سلوكياتهم أثناء المناقشة: احترام الباحث، تجنب الألفاظ الجارحة، التركيز على المحتوى وليس على النيات، ومنع أي إساءة تمس الكرامة الشخصية.

ثانيًا، يجب تدريب الأساتذة الجدد على آداب النقد العلمي، كما يُدرّب الأطباء على أخلاقيات المهنة، فكما لا يجوز للطبيب أن يُهين مريضه مهما أخطأ، لا يجوز للعالم أن يُهين باحثًا مهما كانت ملاحظاته عليه، والنقد يجب أن يكون قاطعًا في الفكرة، رحيمًا بالإنسان.

ثالثًا، يجب أن تُوثّق الجامعات المناقشات العلمية صوتًا وصورة، لحماية حقوق الطرفين، وردع كل تجاوزٍ لفظي أو سلوكي، فالعلنية هي الضمانة الأولى للعدالة الأكاديمية.

ورابعًا، لا بد أن تُعاد هيبة القيم الإنسانية داخل القاعة: التواضع، الاحترام، الشفقة، السماع للآخر. هذه ليست شعاراتٍ أخلاقية، بل شروطٌ ضرورية لنهضة البحث العلمي نفسه. فالإبداع لا يولد في جوّ القهر، بل في مناخ الحرية والأمان النفسي.

أخيرًا، وأقولها بصدق: لقد آن للجامعات المصرية – والأزهر خاصة – أن تنظر في مرآتها، لتواجه بشجاعةٍ هذا القبح الذي يُلطّخ وجهها في بعض القاعات، إن الباحثين ليسوا أعداءً، بل أبناء، وليسوا خصومًا، بل شركاء في حمل رسالة العلم، وإنّ أستاذًا واحدًا يُهين طالبًا أمام الناس، يسيء إلى كل المؤسسة التي ينتمي إليها.

العلم يا سادة ليس سلطة، بل مسؤولية، وليس لقبًا، بل أمانة، والجامعة التي لا تحفظ كرامة الباحث لا تستحق أن تُخرّج العلماء.

 اقرأ أيضا

د. كريم نفادي يكتب لـ «30 يوم» : المنهج الوسطي المعتدل في التعامل مع الفتن والصراعات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى