حمدي رزق يكتب : فى ذكرى خالد الذكر

ليس شرطا أن تكون ناصريا لتحب عبد الناصر، وتدافع عن تجربته فى الاستقلال الوطنى فى مواجهة من يحاولون احتلال العقل الجمعى بأباطيل ترسمهم أبطالا من ورق مقوي.
ووعيت على الدنيا ولسان والدى العامل البسيط يلهج بالرحمة لناصر ويبشبش الطوبة اللى تحت راسه، ورغم الحزن الساكن فينا ليل نهار منذ رحيله مذبوحا من الألم، لم أرتد عباءة ناصر، ولم ألف رأسى يوما بشاله، فلست درويشا فى الحضرة الناصرية،ولا تاجرت باسم الزعيم والتجارة باسمه يوما كانت رابحة. بالمناسبة عبد الناصر مات من زمان، غادرنا إلى جنان الخلد فى 28 سبتمبر 1970، يستحضرونه من الغياب، هدفا لأحقادهم الطبقية، وملئا لفراغ نفسانى يعمهون فيه، ويناولونه بكل فجاجة سياسية، ويبحثون فى سيرته عن مآخذ سياسية بعد أن كلت مساعيهم فى البحث عن نقائص وطنية، ولا يمتثلون للحديث النبوى الشريف، «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم».
يتذكرون ويذكرون ناصر بسوء فى ثلاثة مواعيد معلومة ، يوم ميلاده (15 يناير 1918) ويوم وفاته الله يرحمه، ويوم ثورته (ثورة 23 يوليو الشقيقة الكبرى لثورة 30 يونيو)..
ما إن حلت ذكراه، ذكرى وفاته، حتى تبارى نفر من الساسة المعتزلين (اختياريا) بالحط على رأس ناصر، ووصفه بما يحزن المحبين، وصوبوا سهامهم المسمومة للنيل من رجل أحب مصر من قلبه، ونذر نفسه فداء لوطنه، وخاطب البسطاء، بنى وطني.
يصح فى ناصر حديث الاجتهاد، وهو فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».. حتى أخطاء ناصر يؤجر عليها لأنها كانت فى طريق الصواب الوطني.
أخشى (الهُبوب) يلفح الوجوه، وفى اللغة العربية الفصحى الهُبوب الرياح العاصفة، تثير الغبار، الهُبوب التاريخى يلفح وجوه رموز هذا الوطن . أخشى الهُبوب مع قدوم الربيع، رياح الخماسين عادة تهب محملة بالأتربة والرمال تعمى العيون عن الرؤية، فيصير السياسى المعتزل مؤرخا، والدبلوماسى القاعد على قلبها منظرا، وفى الحالتين يصح فيهم قول الشاعر العربى الكبير «بشار بن برد»: « أَعمى يَقودُ بَصيرا لا أَبا لَكُمُ / قَد ضَلَّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ»!! كتبت ذات مرة عن «مقص دار التاريخ»، الذى يقص التاريخ ع المقاس المطلوب فضائيا وصحفيا ليرتديه أصحاب الخفافة واللطافة، والتاريخ ليس مهنة الخفيف ولا حكى اللطيف، التاريخ يكتبه الراسخون فى تاريخ الأمة، المشهود لهم بالأمانة التاريخية، من يعتمرون علم مصر يلف رءوسهم دون حزبية سياسية مقيتة بغيضة.
فى سنوات أخيرة تكالب على تاريخ مصر الأكلة تكالبها على قصعتها، لم يفلت رمز مصرى من أسنانهم الصفراء، تمزيقا، وتشويها، وإساءة، فضلا عن نبش القبور، والنبش محرم شرعا، ومن الموبقات الأخلاقية، ويجافى احترام جلال الموت وهو واجب دينى وأخلاقى وإنساني.. وقالها طيب الذكر «صلاح جاهين»: «الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع» وبتصرف الموت ما بقالهوش جلال يا جدع!
بعض المنصات الممسوسة لا تزال تستبطن ثأرا من ناصر والناصرية، وتنبش القبور، وللأسف بأظافر مصرية، نفر من الساسة والمؤرخين المصريين المعتزلين اختياريا يحملون معاول نبش القبور، تخصصوا فى مسك السيرة، وتقليب الدفاتر، والحكى من غير تدقيق ولا توثيق ، ولا مصادر حقيقية. عبد الناصر مات وشبع موت، مر على وفاته ٥٥ عاما، وهم لا يصدقون، وكأنهم يخشون قيامته من قبره، ترتعد فرائصهم، عبد الناصر حسابه عند ربه، وسيحكم عليه التاريخ بإنصاف لا يعرفونه، لا يحكم على خالد الذكر فى قلوب المصريين هؤلاء المارَّة على الفضائيات.
محاولة الاغتيال الأول لناصر فى المنشية (فى 26 أكتوبر 1954) كانت بأيدى إخوان الشيطان، وباءت بالفشل، ورسمت ناصر زعيما فى عيون المصريين، محاولة الاغتيال الثانى لناصر بألسنة حداد ستبوء بالفشل، وسيظل ناصر رمزا لكفاح المصريين، من يقول ناصر «ديكتاتور»، ترد عليه الجماهير زاعقة، ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية، يا روح الأمة العربية.
نفر ممن لم يسجل فى تاريخهم موقف وطنى يذكر، ينكرون مواقف ناصر التاريخية، ونضالات ناصر الوطنية، أبو خالد يقض مضجعهم فى نومته الأبدية.
ناصر حالة ألق مصرية، ناصعة لم يشبها فساد، وجه مضيء من وجوه المحروسة، وكم وجوها طيبة نالها الأذي، اغتالوا الثائر «أحمد عرابي»، وأنكروه، والكبير «سعد زغلول» وشوهوه، وخمشوا وجه الشاب الوطنى «مصطفى كامل» واتهموه جزافا، وحفروا فى التاريخ عميقا ليستخرجوا جثة «صلاح الدين الأيوبي» ليحقروه.
أكلما ظهر فينا وطنى شريف اغتلتموه، نحن شعب نعظم أبطالنا، والحساب الختامى فى ميزان حسناتهم . التعاطى مع التاريخ بالقطعة، ونوع الجبن والتوست الفرنسى والتنابز بالنبيذ، لا يستقيم عقلا ولا خلقا، ماذا تتركون لأجيال قادمة، وقد شوّهتم رموزكم، وأهنتم زعاماتكم، ناصر مات فى فراشه وما فى جسده موضع إلا وفيه رمية سهم من سهامكم المسمومة!.
الأهرام