فن و ثقافةكُتّاب وآراء

الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» :العالم يختنق بالأوهام…!!

العالم الذي نسميه واسعاً وفسيحاً، يبدو لي ضيقاً، محدوداً، كغرفة صغيرة أُقفلت على أنفاسنا، عالم ضائع ٌبين تلال من الأوهام والسراب. إنه هشٌّ، فانٍ، أضعف من أن يحمي زهرة من اغتصاب عابر سبيل، أو أن يمنع شعلة الحكمة من أن تُطفأ على منبر الحياة. إنه عاجز عن حفظ نقاء البراءة، عاجز عن حماية ضحكة طفل، عاجز عن الوقوف أمام طغيان الأحقاد والأنانيات المتحجرة.

العالم اليوم أكوام من الأكاذيب المتناثرة، ألوانها براقة لكنها خاوية، صور مزركشة لكنها فارغة، صور خادعة وكلمات مسمومة، كأن القادم هو نهاية النهايات وقيامة القيامات، كأن الزمن قد أنهك نفسه قبل أن ينهي على البشر ما تبقى من حلم أو أمل. أمامي، الأمنيات تتدحرج بلا رحمة، ككرات زجاجية تتكسر على حواف الهاوية، وحولي، عاهرات الخيبات يرقصن على إيقاع جروحي، يستهلكن نواصي قلبي، يلتهمن صمت روحي، ويتركنني أبحث عن لحظة هدوء لم تعد موجودة.

ومن خلفي ذئاب الحاجات تعوي بلا توقف، تفترس كل نبضة أمل، وتذكرني بوطأة العدم التي تحاصر كل خطوة. وفوقي، طيور أبابيل تدرّعت بأحجار السماء، تمطرني بسخاء يشبه سخاء الدنيا حين تسخر مني، حين أرجوها أماناً فيأبى العالم إلا أن يستهزئ بي.
كل شيء حولي صار حائلاً، كل وجه فقد عينيه، كل يد فقدت نبلها، كل كلمة فقدت صدقها، وكل قلب فقد طيبته. الجهات في الحياة صارت كالحات: حجرية، متجمدة، متيبسة، مستعدة لإطلاق أشواكها وعقاربها، كالأفاعي التي لا ترحم، فتقتل العيون الجميلة، وتذبح الشفاه الضاحكة، وتكسر الأيادي البيضاء الممتدة للخير والصفاء.

الحلم أصبح مستحيل الوصول إليه، كأنه هارب خلف جدار من زجاج متصدع، والحب فقد محله، لا مكان له بين هذه الجدران، بين هذه الممرات المعتمة، بين هذا الزيف الذي يختنق كل لحظة من الحياة. الخيارات انقرضت، وغياب الأمان أصبح واقعاً لا مهرب منه. لم يعد هناك حديقة نزهة، ولا واحة للراحة، ولا شرفة للتأمل، ولا ركن للأمان الداخلي. كل شيء صار مضطرباً، مضطراً، مسخاً. العالم يموت اختناقاً، والعقل والحواس والروح تبحث عن متنفس بلا جدوى، عن فسحة تُبقي النفس على قيد الحياة، عن شعاع يضيء ما تبقى من الإنسانية المبعثرة.

في هذا الخراب،يصير الوهم صديق المضللين، والخديعة ملاذ العاجزين، والصمت رفيق العارفين بعمق المأساة. هنا، حيث تنهار الوجوه وتتداعى الكلمات، حيث تخبو الأحلام تحت أقدام الطغاة والمتسلطين، يظل القلب يبحث عن منفذ، عن وهج، عن شرارة تضئ طريقه بين الدمار.

هذا العالم الخادع، بهذه القسوة، بهذه الرعونة، بهذه الألوان المزيفة والأصنام المزخرفة، صار ساحة اختبار: هل سنستسلم للأوهام، أم نبتكر طرقنا الخاصة للعيش والحب والحلم؟ هل نسمح للأفاعي والأحجار أن تقتل جمالنا الداخلي، أم نخلق لنفسنا جنة صغيرة وسط الخراب؟ هذه هي معركة الروح، ومعركة القلب، ومعركة الإنسان الحقيقي الذي لم ينسَ معنى أن يكون حياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى