حمدي رزق يكتب: أكذوبة إسرائيل الكبرى

“من يكذب يسرق، ومن يسرق يكذب”. العبارة ليست حديثا نبويا ولا آية قرآنية، ولكنها مقولة شائعة في الثقافة العربية، وتنسحب بحروفها ومعانيها على “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء إسرائيل، فهو يكذب ويختلق القصص كي يسرق الأراضي العربية.
وبما أنه لا يستطيع دعم أكاذيبه السياسية، فإنه يرجعها إلى أصل ديني (توراتي) يدير به رؤوس الحاخامات لينال دعمهم في حرب الإبادة.
يظهر نتنياهو أمام الحاخامات في صورة “المخلص المنتظر للشعب اليهودي”، ويرى نفسه في التوراة مبعوث العناية اليهودية، ويصرح بهذا الزعم، معتبرا أنه في “مهمة تاريخية وروحية” تتوارثها الأجيال، مرتبطة بـ “إسرائيل الكبرى”.
ويربح نتنياهو بحديث الإفك تأييد عموم اليمين الإسرائيلي المتطرف، ويعمق أواصر التحالف مع البيئة الحاضنة لمشروعه التوسعي .
ورغم محاولاته التفرد بالنبوءات ونزوعه المستدام إلى العودة إلى نصوص التوراة، لم يأتِ نتنياهو بجديد على الأسماع.
معلوم أن مشروع “إسرائيل الكبرى” ليس من بنات أفكاره ولا من طروحاته، بل هو مشروع استعماري طرحه أولا، ولا يزال يعتنقه، الوزير المتطرف ” بتسالئيل سموتريتش ” زعيم حزب “البيت اليهودي” عام 2016، وكان حينها عضوا في الكنيست.
ويتبنى هذا الأخير مخططا توسعيا يرى أن “حدود إسرائيل يجب أن تمتد لتشمل دمشق، إضافة إلى أراضي ست دول عربية هي: سوريا، ولبنان، والأردن، والعراق، وجزء من مصر، وجزء من السعودية، لتحقيق الحلم الصهيوني من النيل إلى الفرات”.
خطاب نتنياهو في تحليله خطاب فقير، بناؤه متداعٍ، وأفكاره غير مترابطة، ولا تسنده حقيقة.
وفي وصف خطابه يقولون إنه يحلم أحلام يقظة، أو بالأدق أضغاث أحلام، وهي الأحلام المختلطة أو أباطيل الأحلام أو أهاويلها. وقد جاء ذكر أضغاث الأحلام في سورة يوسف، في قوله -سبحانه وتعالى-: “قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ”.
تراه (نتنياهو) في ظهوراته العلنية مخنوقا محتقنا، وجهه ممتقعا، وصدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، ويلجأ إلى “سفر أشعياء” لعل وعسى يقنع شعبه بشرعية حربه فلما أفل نجمه وتداعت شعبيته، لجأ إلى مغازلة اليمين المتطرف يداعب أساطيرهم المؤسسة للدولة العبرية.
يتحدث نتنياهو بلسان كبير الحاخامات: “سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم”. يفتقر إلى مفردات سياسية تعينه على الإقناع، وخطابه أخروي أسطوري، يتسق مع أفكار حليفه اللدود الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي تولد لديه قناعة نفسانية بأنه مبعوث العناية الإلهية للبشرية.
لفهم مفردات وتعبيرات خطاب نتنياهو سياسيا، يستوجب الأمر العودة مجددا إلى التوراة، إلى مزاعم وخرافات حاخامات اليهود رعاة الحرب الدينية، ونبوءة حكام إسرائيل، وآخرهم –وليس آخرهم– نتنياهو، وهي النبوءة التي تشكل الأسطورة المؤسسة للدولة العبرية، البنية الدينية المستقاة من نبوءة أشعياء.
مرجعية نتنياهو في خطابه التوراتي بختم الحاخامات، إذ يمدونه بنصوص توراتية مغرقة في الظلامية ليغازل بها أحلام المتطرفين اليهود، ويضفي على حرب الإبادة مزاعم توراتية، في محاولة عبثية لإضفاء مسحة دينية على حرب إجرامية.
آخر مسكوكات نتنياهو، زعم “دولة إسرائيل الكبرى”، وهو تعبير مستقى من نص توراتي جاوزه الزمان. والنص من سفر التكوين (15: 18): “في ذلك اليوم قطع الرب مع إبراهيم ميثاقا، قائلًا: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”. وحسب هذا الادعاء، تشمل حدود أرض إسرائيل الكبرى كل الأراضي المحتلة عام 1948، والضفة الغربية، وقطاع غزة، ومرتفعات الجولان.
نتنياهو العلماني تحوّل بعد السابع من أكتوبر من زعيم سياسي متطرف إلى حاخام متطرف، يرتدي “اليارمولكه” (الكِبة) لإضفاء شرعية دينية على الحرب في قطاع غزة، ومنحها صبغة “مقدسة”.
والغريب أن بعض المتحدثين باسم المقاومة يستدرجهم نتنياهو إلى صبغ المقاومة بصبغة دينية، لتتحول حرب الإبادة –بحسب السردية الإسرائيلية– إلى حرب دينية، ما يؤذن بتوسيعها لتصبح حربا إقليمية على أسس دينية.
وله في تديين الحرب مآرب أخرى، منها تأجيج الصراع على أسس دينية، فضلا عن استعطاف اليمين المتطرف، الذي يشكل العمود الفقري لائتلافه الحكومي.
رئيس وزراء الدولة العبرية يطلبها حربا دينية، مستشهدا بـ “سفر إشعياء” الإصحاح التاسع عشر، ويغازل الحاخامات المتطرفين، ويغذي الثارات التاريخية بحديث الأسفار، ومفردها “سِفر” أي الكتاب الكبير: “هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا”.
والراسخون في العلم يعلمون علم اليقين، ومن أسفار العهد الجديد، أن إسرائيل الحالية ليست “شعب الله المختار”، وأن فكرة “شعب الله المختار” كانت لفترة معينة أو لغرض معين وانتهت، وأن اليهود جاءوا إلى فلسطين بوعد من بلفور، وليس بوعد من الله.
نتنياهو بعد لطمة السابع من أكتوبر يصرخ في الإسرائيليين الحانقين عليه بالتوراة، يسترضيهم، ويعدهم بـ “يهودا والسامرة”، ويقولها صراحة: “سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمع بعدُ خرابا في أرضك، سنمنح المجد لشعبك، سنقاتل معا وسننتصر”.
ويتحدث نتنياهو بلسان “إيتمار بن غفير” وزير الأمن القومي الإسرائيلي، بقوله: “نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسيهزم النورُ الظلام”، بحسب تعبيره العنصري البغيض، ومعلوم عن بن غفير الكذب البواح، وأنه يسرق ويكذب في آن.
نتنياهو في ظهوراته العلنية الكثيفة يطلبها حربا دينية، ويلجأ إلى سفر أشعياء وأسفار أخرى، لعل وعسى يقنع شعبه بمشروعية حربه. ولاستدامة حرب الإبادة، يلجأ للتوراة: “كما هو مكتوب في التوراة، سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم”.
الأهرام