الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ 30 يوم : ما الكتابة؟ ولماذا نكتب؟

حين تمسك القلم لأول مرة وتشعر بثقله الخفيف بين أصابعك، تدرك أن العالم على وشك أن يتشكل من جديد. إنّه ليس خشبًا وأحبارًا فحسب، بل مفتاح يفتح أبواب القلب، ومصباح يضيء دهاليز العقل، وجسرٌ يربط بينك وبين الآخرين، وبينك وبين ذاتك الأعمق. ومنذ تلك اللحظة، تتحوّل الكتابة من فعلٍ عابر إلى رفيقٍ أبدي، تمشي معك في طرقات العمر، تهمس لك حين تصمت الدنيا، وتمنحك جناحين حين تضيق بك الأرض.
أتذكّر أول مرة أمسكت فيها القلم، كنتُ طفلًا أحاول أن أكتب اسمي بيدٍ مرتجفة فوق ورقة بيضاء، وكانت كلّ حرفٍ يرسمه القلم بمثابة خطوة أولى على طريق طويل. يومها، لم أكن أعلم أنّ هذا الطريق سيأخذني إلى مدن لم أرها، وقلوب لم أعرفها، وأزمنة لم أعشها، وأنّني سأكتشف أنّ الكتابة ليست حبرًا يسيل، بل روحًا تسافر.
الكتابةُ نبضُ الروح حين تفيضُ الخواطر، وهمسُ الفكر وهو يترجم الحال، ودفترُ الذكريات الذي يطيب به المقال. هي وجعٌ وأمل، ووصلٌ وانفصال، وإقبالٌ وإدبار، لكنها في كل حالٍ حياةٌ تتقاطع فيها المشاعر والمعاني.
هي صورٌ لرغباتٍ خجولة، وحاجاتٍ متعبة، وأيامٍ عليلة، أقدّمها كلماتٍ تصلح للحياة والحب والحرية والعشق الممنوع، وقد تصلح لغير ذلك إن غيّرنا حروفها ترتيبًا أو إضافةً أو حذفًا، أو قدّمنا وأخرنا مواضعها. ففي الترتيب ترغيب، وفي الإضافة والحذف تجديد، وفي التقديم والتأخير جماليات المعنى وسحر البلاغة.
حين نكتب، تضيء أفكارنا وتنبض قلوبنا.
إذًا، فلنكتب كل كلمةٍ تغازل خاطرنا، وكل فكرةٍ تومض في أذهاننا، وكل معنى يلمع في أعماقنا.
فلنوثّق مشاعرنا وعواطفنا، ومواقفنا وخيالاتنا، لأن الكتابة طقسٌ مقدّس يحفظ الفكرة من الضياع، ويمنحها حياةً ثانية.
حين نكتب، نتحقق ونؤكد وجودنا، ونمزّق حدودنا، ونكشف بواطننا. فالكلمات أضواءٌ كاشفة، تتيح للآخر أن يرانا ويعرفنا، وتسمح له بالاقتراب منا والحكم علينا بعدلٍ وإنصاف، ونحن بحاجة إلى الآخر كما هو بحاجة إلينا.
الكتابة حوارٌ مع الذات والآخر، لقاءٌ بين الأنا والـ”هو”، ثنائيةٌ مبدعةٌ لا تعرف العقم الذي تبتليه الأحادية. وحين نكتب، فإننا نقرأ ونخاطب ونتكلم، نعلّم ونتعلّم، نعرض ونستعرض، نقرّر ونحكم، نبوح ونبيح، ونسافر عبر الزمن والأمكنة.
اللغة نبعٌ لا ينضب، تجري أنهاره بالكلمات، تروي الظمأ، وتغني المحتاج، وتجمّل المبدع، وتؤنس المستوحش، وتسامر العاشق.
وبأسمائها نسمّي أيامنا وأحلامنا، وبأفعالها نبني ممالك مجدنا وقصائد وجدنا، وبحروفها نجرّ آلامنا وخيباتنا من زمنٍ إلى زمن، ومن مكانٍ إلى مكان.
لهذا أغرتني الكتابة، فهي تجربة حياة ووجود. في القلم سحرٌ وسر، وفي الورقة رقةٌ واحتواء، وأنا مأخوذة بكليهما. هما جناحاي اللذان أحلّق بهما إلى الأعالي، وأجوب بهما آفاق السماء وأطراف الأرض، فأحطّ حيث أشاء، حرّةً سعيدةً.
بهما أستحضر الغائب، وأستعيد الفائت، وأرسم الأحلام، وأجفّف الآلام. بهما أحتسي قهوة الصباح، وخمرة الظهيرة، وسلافة الليل، فأنام راضية وأصحو ممتلئة بالحياة.
الكتابة فنّ السعادة والحياة، لا يجيدها إلا الأصفياء الأوفياء، المؤمنون بالحب والحق والحرية. وهي قبل أن تكون فنًا لغويًا أو بلاغيًا، هي فنٌّ روحيٌّ نفسيٌّ عقليٌّ إنسانيّ، بل هي طفولة الروح وصدقها.
لكن الكتابة ليست مجرّد هواية أو متعة؛ هي مقاومة للنسيان، وانتصار على الفناء، وحوار أبدي مع الغيب. هي أن تترك أثرًا على صفحة الكون، ولو كان حرفًا واحدًا، فتقول للزمن: “كنتُ هنا”.
وأهمّ ما في التجربة الكتابية أن نكون صادقين في القول، محقّين في الفعل، أوفياء للمبدأ، مدافعين عنه حتى آخر العمر بثقة ورضى.
قد يقول قائل: ما نفع الكتابة والكتب، وكل ما كتب ويكتب سيؤول إلى الاصفرار والفناء مع أصحابها؟
ونقول لهم: نعم، الأوراق تموت والأجساد تفنى، لكنّ الأفكار تبقى حيةً، والأرواح المبدعة خالدة. لقد رحل الأنبياء والعلماء والفلاسفة والشعراء، لكنّ آثارهم بقيت مناراتٍ نهتدي بها، وأنوارًا تبدّد العتمة، ودروسًا ترشد إلى سواء السبيل.
أكتب لأن الكتابة حياةٌ ثانية لا يملكها إلا من أخلص لها. أكتب لأنني أؤمن أن الحروف الصغيرة قادرة على تحريك الجبال، وأن جملةً صادقة قد تفتح قلبًا كان مغلقًا منذ سنين. وحين أضع النقطة الأخيرة، أعلم أنني لم أنهِ النص، بل زرعت شجرةً في بستان الزمن، جذورها في الماضي، وأغصانها تمتد إلى المستقبل، وستظل تثمر ما دام في الكون من يقرأ ويؤمن بالكلمة.