رانيا عاطف تكتب لـ « 30 يوم » : الاختلاف الإنساني .. حكمة الخالق ومنطق الوجود

منذ أن وُجد الإنسان على الأرض، وقد شكّل الاختلاف بين البشر سمة أساسية من سمات الحياة. يختلفون في الفكر والعقيدة، في الطباع والمواهب، في الثقافة والتجربة، بل وحتى في رؤيتهم للأمور. وقد يتساءل المرء: لماذا خلق الله هذا الاختلاف؟ أهو نتيجة خلل أو اضطراب في نظام الكون؟ أم أنه مقصود بحكمة دقيقة لا تقوم الحياة إلا بها ولا تستقيم الأمور بدونها؟
من منظور فلسفي، يمكن النظر إلى الاختلاف على أنه ضرورة وجودية وأخلاقية في آنٍ واحد. فالكون كله قائم على التنوع، والطبيعة ذاتها تحمل في كل عناصرها اختلافًا يثريها ويجعلها صالحة للحياة. ولو شاء الله أن يخلق البشر جميعًا على صورة واحدة وفكر واحد، لفقد الوجود الإنساني معناه، ولما كان هناك مجال للاختيار أو مساحة للحرية. فالاختلاف إذن يعد شرطًا للاختبار، وبابًا لإظهار فضائل متنوعة كالعدل والتسامح والصبر وغيره، وهي قيم لا تنمو إلا في بيئة متعددة المشارب والرؤى.
كما أن اختلاف القدرات والميول يفتح المجال لتكامل الأدوار بين الناس، ليُسهم كل فرد في بناء الحضارة بما يملكه من موهبة أو معرفة أو خبرة. إنّ هذا التكامل القائم على التنوع هو ما يجعل المجتمع قادرًا على النهوض، ويمنحه مرونة أمام التحديات. وهنا تتجلى الحكمة الإلهية في جعل الاختلاف أداة للبناء لا للهدم، إذا ما وُجِّه بالعقل والضمير.
ويضاف إلى ذلك أن اختلاف القدرات الفردية بين البشر ليس مجرد تنوع في المهارات، بل هو توزيع إلهي للطاقات يضمن استمرار حركة الحياة وتوازنها. فالبعض يمتلك القدرة على التفكير العميق والتحليل، وآخرون يتميزون بمهارات عملية أو إبداعية، وغيرهم يملكون قوة بدنية أو حِسًّا فنيًّا راقيًا. هذا التباين يخلق شبكة من التكامل تجعل كل إنسان حلقة ضرورية في سلسلة الوجود، وتؤكد أن القيمة الحقيقية لا تكمن في التشابه، بل في حسن توظيف الاختلاف لخدمة الخير العام.
ومن جوهر هذه الحكمة أن يدرك الإنسان أن فرادته هي سر قيمته، وأنه لا ينبغي له أن يسعى لأن يكون نسخة مكررة من غيره أو ظلًّا باهتًا لشخص آخر. فالمحاكاة العمياء تقتل الإبداع وتُضعف الهوية، بينما الأصالة في التفكير والسلوك تمنح الفرد بصمته الفريدة في الحياة. إن التفرد لا يعني الانعزال عن الآخرين، بل يعني أن يسهم كل إنسان بما يميّزه، ليكون عنصرًا أصيلًا في لوحة التنوع الإنساني الكبرى.
غير أن المشكلة ليست في الاختلاف ذاته، بل تكمن في طريقة التعامل معه. فحين يغيب الوعي ويتراجع العقل أمام الأهواء، يتحول الاختلاف إلى خلاف، وتتحول التعددية إلى صراع. أما إذا ارتقى الإنسان بفكره وأخلاقه وإنسانيته، أدرك أن الاختلاف فرصة للتعلم والنمو، لا ساحة للصدام والصراع، وهنا يصبح التنوع الإنساني مرآة لجمال إرادة الخالق، الذي أراد للبشر أن يتعارفوا ويتكاملوا، لا أن يتناحروا ويتباغضوا.
وبذلك، يمكن القول إن الاختلاف بين البشر ليس عارضًا في الوجود، بل هو جزء من التصميم الإلهي للعالم؛ وهو احترام للكيان البشري، وميدانٌ للأخلاق، ومحركٌ للإبداع، وحين يعي الإنسان هذه الحقيقة، يتحول التنوع من مصدر تهديد إلى مصدر إلهام، ويصبح سبيلًا لتحقيق السلام الداخلي والخارجي على حدٍ سواء.