سماحة سليمان تكتب لـ « 30 يوم : سكين في الزوايا الآمنة

زمان، حين كنّا أطفالًا على مقاعد الدراسة، قرأنا قصة “الغزالة العمياء”.
غزالة لا ترى سوى بعين واحدة.
كانت تقف على الشاطئ، تتساءل في أي اتجاه تُبقي عينها المفتوحة:
أعلى البرّ؟ أم البحر؟
فكّرت، وقدّرت، وقالت: “البحر أقلّ خطرًا من اليابسة”،فأدارت عينها نحو البرّ،ووثقت بالبحر…
لكن السهم الذي قتلها، جاء من البحر.
من الجهة التي أمنت لها.
هكذا هو الغدر…
لا يأتي من خصمٍ ظاهر، بل من المكان الذي منحته الأمان،من الزاوية التي ظننت أنك حميت نفسك فيها.
الغدر يحدث حين تظن أنّك في مأمن،حين تُفرغ ما في قلبك من وجع ماضٍ،وتمنح الحاضر بساطة روحك،وتعلّق المستقبل على أملٍ نقيّ.
الغدر يحدث في ذاك المكان الذي تخلع فيه سلاحك،
وتتجرد فيه من الحذر،وتقف فيه بلا درع،
ولا حصانة،ولا مأوى…
فقط لأنك صدّقت أنّك آمن.
تدخل إليه بثقة،بلا شك،كأنك مسلوب الإرادة،تمشي بحالة من اللاوعي،كأنك تنجذب إلى شعور خادع…
شعور يشبه الأمان،لكنه في الحقيقة خدعة ناعمة،
رائحتها تشبه الحنان،لكنك إن أنصتّ جيدًا،ستجد تحتها رائحة الغدر.
خليطٌ من الأحاسيس يسحبك،
يدفعك إلى القاع،وأنت لا تدري كيف وصلت.
ثم تلتفت…
وتكتشف أن في ظهرك سكينًا.
تسأل نفسك:
“متى زُرعت؟ كيف؟ لم أشعر بها؟”
فتدرك أنّها زُرعت بلطف…
وكان هناك مخدّر،حجَب عنك الإحساس.
لكن حين زال المخدّر،بدأ الألم.
هكذا الغدر…
يسحبك إلى حيث تظن أنك بخير،
ثم يغرس سكينه في ظهرك،
وحين تبدأ بالشعور،
تكتشف أنّك كنت ضحية.
لحظة تشبه صفعة…
توقظك من حلم جميل،
وتلقي بك في كابوسٍ بشع.
كابوسٌ لا يُخفي نفسه،
بل يُصرّ أن تراه،أن تواجهه،أن تدرك قسوته.
تتجمّد الأسئلة فيك:
“ما الذي حدث؟
متى؟
كيف؟
ولماذا؟”
ولا جواب.
كلّ ما تشعر به…
أنك موجوع،
مرتبك،ضائع بين الإحساس واللا إحساس،
تائه بين الصدمة والتصديق.
ذلك هو الغدر…
وجعه ليس عاديًّا،
إنه خيبة تسرق منك كل طمأنينة،
تجعلك تستسلم بصمت،
وتنطفئ من الداخل.
لكننا نتعافى…
ببطء، بصمت، وربما بوجع،
لكننا نتعافى.
لأننا نستحق نجاةً بعد كل خيبة،
ونورًا، حتى لو كان بسيطًا…
بعد كل هذا الظلام.