توبكُتّاب وآراء

حمدي رزق يكتب : روح الأهرام

الروح، ما يُقابل المادة ، تترجم مجموع القوي المعنوية أو العقلية ، مظاهر الحياة النفسية أو المظاهر المتعلقة بالطبع والفكر والنفس .
روح الأهرام ، مجموع قوي مؤسسة الأهرام الحية التي تكفل لها الصدور ( اليومي ) المؤثر في الوعي الجمعي في زمن سيادة المنتوج الرقمي الذي خلط المعادلات الصحفية خلطا عجيبا .
رغم التحديات الرقمية تظل صحيفة الأهرام ( مطبوعة ) قادرة على ركوب الصعب، والإبحار في لجة موج الثورة الرقمية العاتي بفضل روحها العالية التي تحلق بالأهرام في أحواز الفضاء الإلكتروني .
في مقال الأربعاء الماضي المعنون (متون الأهرام) في مناسبة بلوغ الأهرام عامها الخمسين بعد المائة الأولي ، غلبتني ( النوستالجيا ) وأنا بصدد الكتابة عن الأهرام ، سيما أهرام الأستاذ هيكل.
النوستالجيا عادة ما تترجم “الحنين إلى الماضي”، وغالبًا ما تكون مرتبطة بفترة زمنية أو مكان معين يحملان ذكريات وأحداثًا سعيدة، والأهرام في (الزمكان)، مجموع الزمان والمكان معا ، جزوة روحها متوهجة .
وعلاقتي بالأهرام غريبة بعض الشيء، وعلى طريقة الصديق “إبراهيم عيسى”، “وصف من يمكن تسميتها الحبيبة”، والأهرام كانت وستظل، حبيبتي التي أصل وصالها دوما، واقتربت من قلبها يوما، متدربا، ولم أحظَ بقلبها، ولم أتشرف أن أكون ابنا لها، ولكن ظللت متشوقا لوصالها، وكما قال شاعر العرب البليغ (أبو تمام) “نقل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول . كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبدا لأول منزل”، وبعض من الشوق للأهرام في هذه السطور.
في الحكي الشعبي الغارق في “ما وراء الطبيعة”، “الميتافيزيقا”، يحكى عن “النداهة”، أسطورة شعبية عن روح أنثوية تظهر في المناطق الريفية، يُعتقد أنها تجذب الرجال بصوتها الجميل أو مظهرها الخلاب، ما ينتهي في الأخير باختفائهم.. ندهتهم النداهة كما يقولون متفكهين.
نداهة الأهرام البديعة ندهتني يوما، عادة تنهد على المحبين، الأهرام لا تزال شابة رغم عمرها الطويل، لا تشيخ أبدا، شجرة توت عفية، جذابة الأهرام تجذب الأقلام الرشيقة، تجليها، تصقلها، ترسم حروفها..
من يكتب اسمه في “الأهرام” لسعيد الحظ، يرتسم من فوره كاتبا، وكتبة الأهرام من صنف رصين ، تختارهم الأهرام على عينها، تندههم فيلبون النداء متشوقين .
الكتابة في الأهرام عندي ، ومثلي كثير، أبدا ليست نزهة خلوية، أو شغل مساحة، وما يكتب ليس من قبيل الكلام الساكت، الأهرام لا تقبل كتابة عادية، المقبول أهراميا كتابة استثنائية ذات مذاق أهرامي، والمذاق الأهرامي مضبوط على ريحة الوطن.
عندما تكتب للأهرام، جد تتحسب للحرف، وتحتاط للكلمة، وتقف على الحروف، هناك خبراء مثمنون في الأهرام يزنون الكلمة بميزان الذهب، والنشر في الأهرام تحكمه معايير حاكمة قاسية بعض الشيء، ما ينشر أهراميا سائغ شرابه، يصب في نهر الوطن الجاري.
بعد جيل الأباء المؤسسين، أهرام هيكل شكلت معلما من معالم الصحافة الوطنية، ولا تزال مضرب الأمثال في الأستاذية المستحقة، جمع الأستاذ هيكل للأهرام جواهر التاج، والدور السادس يشهد على اجتماع رهط معتبر من قادة الفكر والرأي، يصعب الحصر، ولكنها روح الأهرام التي تنادي على الموهوبين المضروبين بالكلمة.
رحلة الأهرام في الزمان لم تكن يسيرة ميسورة، مرت سفينة الأهرام العتيقة بجنادل وشلالات عوّقت أحيانا المسيرة ، ولكنها لم تتوقف يوما عن الإبحار، روحها تأبى الاستكانة أو الركون، ولعل محاولة اختطاف الأهرام من حضن الوطن إلى جب جماعة الإخوان منت بالفشل الذريع .
روح الأهرام المتمردة أبت الخضوع والاستسلام ، الأهرام يفرش صفحاته يوميا على ربوع الوطن، غير قابل للطي في كهف جماعة لم تعرف قيمة ومكانة الأهرام في الضمير الجمعي.
لم تتمكن الجماعة من اختطاف روح الأهرام، استولت على صفحاتها وقتا مستقطعا من تاريخه العظيم، ولكن روح الأهرام ظلت طليقة محلقة حية، ما تمكن منها مرشد الضلال ولا سبحت بحمده.
مستوجب الوقوف على إحداثيات روح الأهرام التي مكنتها من الصدور قرنا ونصف القرن، بلا توقف ولا انقطاع رغم الخطوب والمحن ، ياما دقت علي الرءوس طبول .
أثمن ما في الأهرام روحها التي تسري في أجيالها، كل جيل يسلم الأهرام لجيل بعده، وروح الأهرام تسري من جيل لجيل ، والجيل الحالي خير خلف لخير سلف .
روح الأهرام تتجسد في جيل الأهرام الحالي، وقد خبرت معدنه الأصيل، المؤتمنين على الأمانة، يحلمون بأهرام يطاول الأهرامات عظمة وشموخا، وحقهم يحلمون، والحلم أول الطريق الصعب الذي يخطونه بخطى واثقة.
ونحلم معهم بأهرام في اكتمال البدر ليلة تمامه، يضارع عظمة أهرام هيكل، وليس الأمر بالمستحيل، وركوب الصعب ممكن.
هذا الجيل بإخلاصه وروح الأهرام تسري في قلوبهم مأمول أن ينجزوا فروضهم، ويؤدون صلواتهم في محراب الأهرام العظيم.
روح الأهرام، وهذا ليس وصفا بلاغيا، تحفظ له الديمومة والاستدامة، تترجم حالة عشق لهذا الاسم الكبير.
في عرفنا الصحفي الأهرام (البيت الكبير)، نتطلع دوما لنوافذه التي تفتح على ربوع الوطن، وما من صحفي وتمنى أن يكون أهراميا، وليس شرط أن تكون أهراميا أن تنسب للأهرام، ولكن يكفيك حب الأهرام التي تنطق باسم وطن يستحق الخلود.

الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى