الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ 30 يوم : حين غنّت الأم صمتًا … ورحل اللحن إلى الأبد

في عالم الفن العربي، اسم فيروز لا يُذكر إلا مقرونًا بالفجر، وبالصلاة، وبالضوء الذي تسكبه حنجرتها على أرصفة الصباحات. هي صوتٌ يتوضّأ به الحنين، وتتّزن به الأبجديات. أما زياد الرحباني، فهو الابن الذي لم يكن مجرد امتدادٍ فني لأمه، بل كسر المألوف، وخلق نبضًا جديدًا في موسيقى الشرق. جمع بين العبقرية الموسيقية والجرأة الاجتماعية، فكان صوت الرفض والعقل المتمرّد، وملجأ الهامش ومسرح الحالمين.
لكن، ما لا تحتمله الأمهات، هو أن يُسبقن إلى الرحيل بأبنائهن. فكيف إذا كانت الأم هي فيروز، والأب المفقود هو زياد الرحباني، لحنها وشريك صمتها؟
فاجعة لا يقدر القلب على وصفها، ذلك الذي شاهدناه صباح الرحيل. الطيف الذي خرج من خلف الغياب، فيروز، السيّدة التي انسحبت من ضوضاء العالم منذ أعوام، عادت تمشي خلف نعشٍ ليس ككلّ النعوش. لم يكن التشييع طقوسًا معتادة، بل سيمفونية حزينة عزفتها عيون الأمهات، وقلوب العاشقين، وأوتار الحناجر التي صمتت فجأة احترامًا لما لا يُقال.
كانت فيروز لا تتكلم، لكنها قالت كل شيء. بصمتها كتبت مرثية العمر، وبخطواتها كتبت قصيدة فقدٍ لا تقرؤها العيون إلا باكية. تلك التي غنّت لـ “زهرة المدائن” و”رجعت الشتوية” و”كيفك إنت”، غنّت هذه المرة لابنها، لا بالكلمات، بل بحضورها المهيب الذي نزل كالعاصفة على قلوبنا.
ما رأيناه لم يكن مجرد جنازة، بل عرضاً مهيبًا لحزن الأمومة عندما تخسر ما لا يُعوّض. كانت تمشي كأن الأرض لا تتّسع، وكأن الهواء لا يليق بها، وكأن زياد ما زال هناك، في أحد الممرات، يضع لحنًا جديدًا لأغنية لم تُغنَّ بعد.
في حضرة فيروز، الحزن يأخذ شكلاً آخر. لا ضجيج، لا نحيب. فقط وجع يتوضّأ بالهيبة، ويصلي في صمت. زياد، الذي كتب وسخِر وصرخ وغنّى، خيّم الآن على أرواحنا كأنه وطنٌ خسره العالم.
كم من فنان رحل، وبقيت أعماله تشهد على عظمته؟ لكن رحيل زياد لا يُقاس إلا بكونه أيضًا رحيل جزء من فيروز نفسها. ثلمة كبيرة شُقّت في جدار الفن اللبناني والعربي والعالمي. لم تكن فيروز وحدها من حزنت، لقد لبس الفن كله سواد حداده.
في ذلك الصباح، لم تودّع فيروز ابنها فقط، بل ودّع العالم مرحلةً فريدة من الإبداع، كانت فيها الموسيقى تمشي على قدمي رجلٍ اسمه زياد.
رحل من علّمنا كيف نغنّي للقضية والوجع والسخرية والتمرد… وبقيت أمّه، تمشي أمامنا كأنها تقول: “ها هو ابني، ها هو اللحن الذي لن يتكرّر”.
رحم الله زياد، وألهم السيدة فيروز، أمّ القلوب، صبر الأنبياء.