سماحة سليمان تكتب لـ « 30 يوم : الصمت أكثر حديثا

الصمت لغةٌ تتحدث أكثر من سكوتها
لا يحتاج الإنسان لأن يتحدث دائمًا ليُعبّر عن وجعه، عن الألم الذي في داخله.
أحيانًا يصمت لأن التعب ثقل، لأن الحديث أصبح عبئًا، والشرح بلا جدوى أمام من لا يسمعون سوى صوتهم.
يصمت لأن هناك أصواتًا تعلو على صوته، تطلب منه التوقف، لتعلو هي بدلاً منه، فتقول بلغة الكلام: “نحن أحق بالحديث، أحق بالفهم والتعبير”.
لكنهم لا يرون أن للناس لغة، ولسانًا، ورأيًا.
يريدونهم أتباعًا لمنطقهم، لفهمهم، لتوصيفهم.
في كل مجال هم الأقدر، عباقرة في أعينهم، ونحن مجرد فراغ يُملأ بأوهامهم وإنجازاتهم، حتى السخيفة منها.
يُصمت لأنهم تعبوا من حوار مع جاهل متعصب يرفض ظهور رأي آخر، يخاف من التفوق عليه، فيسعى لإسكات أصوات الحرية التي تريد أن تعيش برأيها، لا برأي الآخر.
الصمت ليس ضعفًا، بل هو ردّ فعل لما يُسرق من الروح الحرة حين يكون الحوار مع الجاهل بلا جدوى.
هل فكرت يومًا أن للصمت لهجة؟
أن وراء نظرة ثابتة، تنفس بطيء، أو انسحاب خفيف بين الناس، حكاية طويلة لا تحتاج إلى كلمات.
الصمت ليس دائمًا هروبًا، أحيانًا يكون وقفة احترام لما يحدث داخل النفس، صوت داخلي يرفض أن يُقاطع أو يُفسر بعجلة أو وفق مزاج الآخرين.
الصمت لغة الأقوياء الذين ينسحبون من معركة يعلمون أنها خاسرة، حتى أقوى أسلحة النقاش والعقل لا تستطيع محاربة الجهل، لأن الجاهل يؤمن أنه يمتلك كل الحكمة والخبرة التي تخوله أن يكون المتحدث الوحيد.
لذلك يصبح الصمت أقوى من الحديث وأجدى من النقاش، لأنه ينقذ الروح من جدال عقيم.
الصمت تعبير عن قوة تحمل لقمة الصبر أمام الجهلاء المتشدقين بكلمات جوفاء يظنونها شعرًا مقفى، أو معرفة عميقة.
هؤلاء الذين لا يتحملون أن يروا أنفسهم بلا منطق ولا عقل، يتظاهرون بالعالم، والدين، والسياسة، والكتابة، لكنهم أبواق فارغة تصدر ضجيجًا لا فكرًا، أوهامًا مغبرة لا حقيقة مشرقة.
هم أشباه إنسان، كأنهم من العصر الحجري، يأتون ليقنعوا أن ورقة التوت ثوب العفة، وأن الحجر في يدهم سلاح فتاك.
إنسان حجري، أصم، لا يُنقش عليه أي لغة.
لقد تعلم الجميع أن الكلام يُعبّر عنّا، لكن الحقيقة الأعمق:
ما لا يُقال هو ما يحتاج أن نصغي إليه أولًا.
حين يغضب الإنسان بصمت،
حين يتألّم دون صوت،
حين يقرر الانسحاب بهدوء،
فهو لا يهرب من المواجهة، بل يختار معركة أصدق:
مواجهة النفس في مرآتها،
مواجهة إنسان حي أنفع من مواجهة أشباح تدعي الفهم.
الصمت لا يعني الضعف، بل أحيانًا هو صيغة النبل، رفض للهدر، وصون لما تبقى من الكرامة أو الشعور أو النقاء.
في زمن يُقاس فيه الوجود بعدد الكلمات،
اختر أن تكون صمتًا له معنى، لا ضجيجًا بلا روح…