الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ 30 يوم : دمشق قلبي .. والمنفى قلمي

دمشقُ موطئُ توطينِ الإنسان، وأولُ عاصمةٍ مسكونةٍ بالتاريخ منذ عشرة آلاف سنة.
وفي ربوعكِ كُتبت أولُ اتفاقيةِ سلامٍ في التاريخ، في معاهدة قادِش، في القصير بمدينة حمص، حيث كانت الحرب طاحنةً بين الحثيين والفراعنة.
من ضلوعكِ أزهرتْ أولُ أبجدية، وأولُ نوتةٍ موسيقية.ومنكِ انطلقتِ الإمبراطورياتُ .
يا مدينةَ الجمال…
يا نبضةَ القلب وحنينَ الروح،
يا حضنَ الدفءِ كلّما ناداه الغياب…
يا نسيمَ الصبح، وآذانَ الفجر على ضفاف بردى…
كلُّ الدروبِ تأخذني إليكِ، لكلِّ خطوةٍ فيكِ ذكرى، وحكاية…
وخلفَ كلِّ حجرٍ من أحجاركِ دمعةُ شوق…
يا ذكرياتٍ لا تموتُ في جلساتنا الدافئة في القيمرية، وأبو رمانة، وباب توما، وبلودان.
يا من كنتِ ملاذَ الخائفين والتائهين،
يا نغمةَ الطرب، وشذى الياسمين،
يا مدينةَ الجمال…
كم مرةً سهرتُ في لياليكِ… ومشيتُ على أرصفةِ أحيائكِ القديمة، العربية الأصالة…
يا شامي، يا هيامي، وباحةَ أحلامي،
أتذكرينني كما أذكرُ قمركِ يعانقُ قاسيون، ويحكي لي عن زمنٍ مضى… وخطًى مبللةٍ بالدهشة؟
يا شام… أنتِ الحبُّ الذي لا ينتهي،
أنتِ الحديثُ الذي لا يُمل،
أنتِ العطرُ الذي لا يغيب…
غيابي عنكِ لم يكن خيارًا ولا قرارًا،
بل كان موتًا آخر… وانتحارًا،
فرضته حربٌ شعواء، هوجاء، مجنونة…
لكنّكِ لم تغيبي، بل سكنتِ نبض القلب، وحبر القلم،
وأزهرتِ على أغصان غربتي فُلًّا وياسمينًا…
كنتِ معي في فنجان قهوتي، في ضجري، وشوقي، وسلوتي،
معي في حقيبتي، أحملكِ على كتفي، لا تفارقيني…
أيُّ ذاكرةٍ تلك التي لا تموت؟ ولا يقتلها البعد،
بل تُبعثُ إلى الحياة عندما يمرُّ نسيمُ هواكِ…
أتذكّر كلَّ خطوة، وكلَّ درب، وكلَّ زاوية، وكلَّ أغنية…
كأنّ الذاكرة، مهما أحاطتْ بها النار، لا تحترق،
عصيةٌ على الغياب… لأنكِ فيها.
آهٍ يا دمشق… يا جُرحًا لا يلتئم،
نغادر أرضكِ، ولكنكِ لا تغادريننا،
تسكنين اللحظات، كما الموجُ يسكنُ البحر، وكما النجمُ يسكنُ الليل.
لو وصلتُ إلى أبعدِ نقاطِ العالم،
المسافاتُ عنكِ وهم،
كأنني حملتُكِ بين ضلوعي،
أتنفّسكِ في صباحي، ومسائي،
أهاجرُ منكِ إليكِ،
أشمُّ في غربتي رائحةَ ياسمينكِ.
أتذكرين، يا دمشق، يومَ خرجتُ من دار الأوبرا؟
وأخذني شرودٌ بكِ، وتُهتُ عن الطريق؟
أتذكرين؟
لم أخف… ولم أرتجف،
لأنكِ أمسكتِ يدي، واهتديتُ عندما رأيتُ المتحفَ الوطني،
وعرفتُ كيفَ سأتجه نحو سكني…
يا تحفةَ الروح أنتِ،
يا جميلةَ القد، يا صبيةَ العهد،
كم تنهشني الدموعُ حين أفكرُ بما حدثَ على فراش طُهركِ، وفي ربوعِ أرضك…
كصبيةٍ في عزِّ جمالها وقدِّها وكمالها،
يغتصبها الغرباءُ واحدًا تلو الآخر،
يتركونها جثةً هامدة، ولا يرتوون…
يبدأ الطعنُ كلَّ يومٍ في طرفٍ من أطراف جسدكِ المثخنِ بالدماء…
لولا حروفي يا دمشق، أُهدئ بها جنونَ شوقي،
لمُتُّ منسيةً…
صار القلمُ خارطةَ وطنٍ،
ترسمُ لوحاتِ القهرِ والهجرِ على شواطئِ السهر…
والأبجديةُ تنوح،
والكلماتُ تهذي وتصرخ من فرطِ الشوق…
أيها الوطنُ الذي تسكنني،
وأنا البعيدةُ عن تخومك، وجبالك، وسهولك…
أيها الوطن، المتكئُ على جذع الذاكرة،
أتفيّأُ أغصانها،
وأتذوّقُ حلاوةَ ثمارها،
وأشكرُ سماءً وعدتني بلقائك،
على مفرقِ فجرٍ، وسجادةِ دعاء.
دمشق ليست فقط مدينة، بل نبضُ قلبٍ لا ينطفئ، وسطرٌ خالد في كتاب الحياة. رغم الغياب والشتات، تبقى دمشق في الروح، تنبض في الكلمات، وتروي قصة حبّ لا يموت.