كُتّاب وآراء

الإعلامي العراقي حسين الذكر يكتب لـ «30 يوم» :حوار مع ميت !

حقب تاريخية تلاطمت في راسي تجارب حياتية واخرى من قراءات منوعة اخذتني لعوالم فرضت علينا فرضا .. هذا الزخم الاحداثي احدث شرخا في منظومة الذاكرة مع قدرتنا الفطرية لخلق مساحات جديدة الا ان الكتل سيما السوداء منها في واقع اكثره اعتم جعل عمليات التحديث لا تملتك قدرة منح دفقات في خازنات الذاكرة التي لم يزل العلم المادي فضلا عن الروحي بعيد عن تثبيت وترسيخ مكامنها المحددة .. بكل الاحوال هي في الراس عصبيا او في الصدر قلبيا ..
كنت قد رايته مرة اخرى .. على شائكة ما نسميه بالمصادفة مع انه في جداول اجندات عددته ميتا وقد اثبت ذلك حزن ثقيل عطل مفكراتي ايام حاولت فيها اعيش مدامع الفقد لبعض الاعزاء من رفاق الدرب منذ الطفولة اذ يعتريني الحزن مع اي نكسة جديدة اذ امارس عمليات التعبير الشجني بمهارة غريزية وجدت في اعماقي وتفتقت بصباي دون ان يكون لاي رتوش اخرى فضل فيها علي .
توقفت قبالته لم اجريء على سؤاله .. حاولت المشي خلفه لحقته في الدرابين والساحات .. شعرت انه احس بثقل مراقبتي وربما خشى عمل المخبرين والمستغلين للعامة .. لذا وجدته يلج بطرق ويدلف بين زحمات الناس بقصدية تمويهية واضحة .. مع ان لهفتي تبدوا حنينا في الرؤية الا ان ثقافة الخوف التي زرعتها الانظمة في قلوب الاجيال مع تشائمية مسبقة من فعل الخير جعلته يتخذ موقف كان له قدرة تجاوزه منذ اول لقاء ..
بعد مطاردة وجر وعر .. اخيرا اصبحنا قبالة الاخر : في نفسي دارات حوارات وأُجتت احاديث ومواقف تبلورت على شكل دمعة او شهقة مختمرة لم تزهق بعد ، تذكرت خوالي الايام ، صداقتنا وامنياتنا وقراءاتنا للواقع انذاك بذاكرة لا تخرج عن الشؤم المترسخ والخوف المتدفق بكل صفحاتها . فيما احسست انه يحدث نفسه : ( من يا ترى هذا الذي رمى به الدهر صباحا في طريقي .. لم كل هذا العناء ، هل هو لص احترافي في زمن اللصلصة .. ام اشتبه عليه الامر حد الاختلاط ، ام ثمة خطا ما وقع لكلينا .. هل اوقفه بجراة وشجاعة وانهي هذه المطاردة غير الموجعة برغم تعبها الفكري والبدني ) .
دون مقدمات فاجئته بسؤال مع وضع يدي على كتفيه تصورت ذلك المشهد وتلك الحركة الروتينية لارتماءات الكف على راحة الكتف تخلق نوع من الطمأنينة وتشجع على استساغة الحوار :-
– بادرته قائلا : ( الست صديقي الذي فقدته منذ ثلاثة عقود وبكيتك دهرا بعد ان ساهمت في مسيرة تشيعيك بمشاهد شابها الكثير من الالم والحزن المدقع )!
فقال باهتا : – ( ويحيك انت مجنون .. لاجل هذا السخف تلهف خلفي وشغلتني حد الهلع ) !
فقلت : ( لم اكن سخيفا ولم اختلق واستهدف المواقف طوال حياتي بل ان قاموس فكري فرضا علي ان اسالك فثمة صوت مدوي باعماقي منذ شاهدتك .. الست صديقي الذي مات قبل ثلاثين عام ودفناك ورثيناك وعزينا اهلك وانفسنا بفجيعك ) .
فقال – : ( يبدو ان هوس ما قد اصابك وساخذك على قدر عقلك فاني اراك مجنونا او قدرا ساقك في طريقي علي تحاشيه بافضل الطرق في ظل ازمات تطلبك .. يا اخي اني لا اعرفك ولم اراك مرة واحدة في حياتي فضلا عن كوني لست من اهل هذه المدينة الزاخرة بمفاجئاتها السارة والمزعجة .. فارجو ان تتقبل هذه الحقيقة وتبتعد طوعا عن طريقي والا اعالجك بنوع اخر مخصص للفضولين مثلك ) .
فقلت : ( ان مفرداتك سيما طريقة طرحك او بالاحرى تهديدك المباشر يثبت لي انك المعني – صديقي – الذي تم احياؤه في مدينة اخرى .. قد تكون ولدت من جديد بظرف لا اعيه .. الا ان ما ذاكره حقا .. انك صديقي الميت وهنذا مسترجعا مواقف كلما تحدثنا معا تعززت فرضية الجنون التي وصمتني بها مع انها صناعة الذات الشائكة والمقدرة بتحري قشة وسط مخاضات العقل لصناعة الامل وربما معالجة الالم .. يا صديقي ارجو ان تتحملني بكل الاحوال سينتهي حوارنا على ما يروق لك وحتما سنفترق .. لكن تحري الحقيقة يعد جزء اساس من هجوع مضاجعي التي توترت منذ رايتك فثمة ذاكرة لا تخون .. وقد ترسخت بسمع صوتك واداء حوارك الذي لطالما عشته ايام وساعات تعلمنا منها معا الشيء الكثير ) .
بعد ان اشفق علي او بالاحرى اطمئني لي واستساغ حسن نواياي واهدافي المكشوفة بلا مواربة .. قال : ( ان المصادفة يا صديقي مع دورانية الحياة وشائكية ملفاتها وتعدد مطباتها وعولمية دروبها تات بالكثير مما لا نعتقده ولا نصدقه .. وانت استشعرت ذاكرة حية كانت تخبو حد السبات في وجدانك مما اقفزها الى الواجهة من جديد رؤية شبه – ليس مجرد شبه – بيني وبين صديقك رحمه الله ولا يمكن الاستمرار بهذا الهوس وعليك ان تعي ذلك فالموت رسالة ابدية لم تنجح مليارات البشرية وعصارات الحقب ان تبلغنا بحالة واحدة مما تدعي وان طرحت على شكل سيناريوهات معتقة في الاسفار والاحبار والمرويات … كشواذ لقاعدة تغلق فيها الابواب وتمزق الملفات بدمعة حزن ونثرة تراب ) .
يا الهي : ( كلما تكذبني .. ما فيك ودواخلك ومعانيك تاجج مصادق ما ادعي .. كل كلماتك مستساغة عندي وكاني احفظها اغنية طفولة عن ظهر غيب .. انت انت والله صديقي الذي مات وان لم تفصح بلسانك الا ان كل ما فيك يدل عليك ) .
حاولت ان اعانقه او بالاحرى اطمئنه اني صديق اشتاق الى صديقه وان الازمنة يمكن لها ان تتغير وتتجاذب وتتمحور من جديد على شكل بيانات وتجمعات ومحطات ومشاهد ليس للانسان يد فيها الا ان رحم القدر الحياتي خلاق وقادر على الاتيان برغم هول الصدمات وفزع اللحظات وصخب الدمع المستنزف ..
على حين غرة اختفى صديقي او بالاحرى دلف هاربا بين الجموع بعد ان رجفت يداي وخفق قلبي ونعست عيناي ومحقت ذاكرتي بمحاولات احياء مشهد مر عليه عقود وربما قرون او عصور جعلتني انا الحي الميت وليس هو ..
فكرت طويلا بما جرى حاولت جعله حقيقة عشته بجدية وتلمسته واقعا وليس مجرد هوس حروف ومداد قلم تجمد بلحظة ما نحو مشهد تراجيدي لسيناريو معد مسبق في عمق الذات .. تذكرت المطاردة منذ اول مفاجئتها واهولها التي أجتت اعماقي فصل فصل جزء جزء واعدت مشاهدها الحية بنبض حي .. لم يخطر ببالي الا ان صديقي قد مات حقا بتلال الارشيف المتكدسة منذ الاف القرون .. ثم التقطته من بين ملايين الصور الدافقة .. حاول ان يموت او يمحي ذاكرتي الحية في جسد ميت .. لكنه لم يفلح بمحق الحقيقة التي ارتويت منها دقائق عبقة .. مرت كحلم خاطف في نهار متشبع الاستذكار .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى