رانيا عاطف تكتب لـ « 30 يوم » : فلسفة الحرب وسؤال القيمة

تُعدّ الحرب من أكثر الظواهر تعقيدًا في التاريخ البشري، إذ تتجاوز كونها صراعًا عسكريًا لتصبح اختبارًا أخلاقيًا حادًا لمنظومة القيم التي يدّعي الإنسان التمسك بها. فالقتل المنظم، والتدمير الممنهج، والانتهاك الصارخ للكرامة الإنسانية، لا يمكن اختزاله إلى معادلات استراتيجية أو قرارات سيادية، بل يجب أن يُفهم بوصفه انعكاسًا لتصدّع عميق في البنية الأخلاقية للحضارة المعاصرة.
من هذا المنظور، تطرح الفلسفة سؤالًا جذريًا: كيف يمكن لمجتمع يُمجّد قيم العدالة والحرية والكرامة أن يقبل، بل ويبرر، أفعالًا تناقض هذه القيم في جوهرها؟ حين تُخاض الحروب باسم السلام، ويُرتكب العنف بذريعة الحماية، يُصبح من اللازم مساءلة العقل البشري الذي يُلبس القوة ثوب الأخلاق، ويحوّل الإنسان إلى وسيلة لتحقيق غايات سياسية أو أيديولوجية.
إن الحرب لا تدمّر الجغرافيا ولا تسجل في التاريخ فقط، بل تهدد أسس التواصل الإنساني ذاته؛ ففي لحظة الحرب، يُختزل الآخر إلى “هدف” أو “عدو”، وتُمحى فرادته الأخلاقية، ويتوقف السمو الإنساني الذي يؤسّس للرحمة والاحترام. وكما بيّن العديد من الفلاسفة، فإن فقدان القدرة على رؤية وجه الآخر بوصفه إنسانًا، لا مجرّد تهديد، هو ما يفتح الباب أمام نزع الإنسانية وتمرير المذابح بدم بارد.
يقدّم التفكير الفلسفي موقفًا مضادًا لهذا التشييء. فبدلًا من الانخراط في خطاب التبرير، يُمارس الفيلسوف دوره النقدي في تفكيك الهياكل الفكرية التي تُسوّق العنف كضرورة. في حين تظل الفلسفة لا تقف في صفّ أحد الأطراف، بل تقف دائمًا في صفّ الإنسان بوصفه قيمة بحد ذاته. ومن هذا الموقع، ترفض الحرب ليس فقط بسبب نتائجها، بل بسبب منطقها الذي يُحوّل الحياة إلى أداة، ويُسخّر المعاناة لتحقيق مصالح عليا لأناس بعينهم دون مبالاة بحقوق غيرهم.
ورغم أن الفلسفة لا تملك سلاحًا عسكريًا، إلا أنها تمنح الإنسان أدوات الوعي، وتُنير الظلام الفكري الذي قد يحوّل البشر إلى متفرجين صامتين على المأساة. إنها تُعيد الإنسان إلى دوره الأخلاقي، وتُذكّر بأن الصمت أحيانًا يُعد شراكة غير معلنة مع الجريمة.
في زمن يعلو فيه صوت السلاح على صوت الضمير، تبدو الفلسفة كفعل مقاومة هادئة، ترفض أن تستسلم للواقع، وتصرّ على أن تسأل: بأي حقّ يُقتل الإنسان؟ وما الذي تبقى من الكرامة حين تُعلَّق حقوق البشر باسم الضرورة؟ إن هذه الأسئلة ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية، لأنها تحفظ لنا المعنى وسط العدم، وتُذكّرنا بأن في وسعنا دائمًا أن نختار، وأن نكون بشرًا في وجه اللاإنسانية، ولكن في الآن نفسه يأتي السؤال الآتي: ماذا عن الحرب كدفاع شرعي عن النفس عندما لا يكون هناك بديل عنها؟ أي الحرب كوسيلة لحفظ الحقوق واحترام الإنسانية، إذ ليست كل حرب تحول الحياة إلى أداة، بل ربما تكون الحرب أحيانًا من أجل الحفاظ على الحياة والوجود والكرامة.
إن الفلسفة، عندما تتأمل في الحرب، فإنها لا تبررها ولا تكتفي بإدانتها، بل تكشف عن عمق العقل الإنساني حين يُختبر في أقسى صوره. وفي عالم تتنازع فيه المصالح ويُهمَّش فيه الإنسان، تظلّ الفلسفة صوت الضمير الحي، الذي يرفض التطبيع مع القسوة، ويعيد تذكيرنا بأن الكرامة لا تُقايَض، وأن قيمة الإنسان لا تسقط بسقوط القنابل، بقدر ما تسقط بتخليه عن حقوقه المشروعة، وتهاونه في الحصول عليها، كما أنها تبقى حاضرة في كل سؤال صادق عن المعنى والحق والحياة والدفاع عن الذات واحترام آدميتها.