الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : تراتيل .. بين عيني السماء ..!

على أعتاب الذاكرة..
كنت أمشي حافيَة الكلمات،
مبللَة القلب بندى العجائز البارعات في إعداد خبز التنور في قريتي….
أمي تركض خلف ظلي…
تبخّرني بعطر النذور…
تطبع على جبيني قبلةً تعلمني قداسة التقبيل ..
تخشى أن تخطفني الريح..
أو تسرقني المجاهيل.. .
انسابت دمعة من رموشها حتى مكنوني ..
كالنجم الأخير …
معلق على خاصرة الليل..
تهدجت حنجرتها وجعاً …
“كسرتِ ظهري غربتك يا بنيتي” ..
تسترسل بعبارات
أثارها خانقة للشهيق …
حزنها تقمص قواميس الدعاء.
ترقص دمعاً..
وحولها يلعب الأحفاد ..
بنين وبنات وتاريخ وجدات ..
يلتحفون ضجرهم…
تساؤلاتهم تطارد سفينة الرحيل …
كاد حبلها يأسرني من المشرق حتى المغرب ..
براءة ابتلت بشمس صباح نيساني ..
في بستان الحب ..
الذي كان يصلي فيه جدي ..
في جلسةٌ أخيرة تحت ظل فكرة..
صديقتي تهديني باقة ورد وادعية ..
وتعاويذ خوف مكتومة..
كل ورقة تحمل نبض وداع صامت …
سؤال أخي كأنه جبل من القوة …
حنان أختي الصغيرة …
كأنها أم منسية على تخوم متعسرة التضاريس …
تغزل لي مفردات حديثها معطفاً من نصائح مخملية ترتبها فوق قلبي …و تربط أكمامها بخيوط الحنين…
في وداع مبطن بجلسة ودّ مع عائلتي…
الحبيبة أحضن بيدي فنجان قهوة يتراقص بين أصابعي المرتجفة….
نرتشف الوقت كمن يرتشف العمر…
نمضغه مع همسات لا تريد أن تنتهي….
في الزواية القصية من الوقت …
يطل أبي…
من ثقب قديم في جدار الزمن….
عيناه تحومان حولي..
كطائر أضاع عشه منذ عشرين خريفاً،
يفتش عن خرائط الضوء…
الذكريات تتكاثر داخلي كأسراب الطيور المذعورة….
تمرُّ فوق قصائدي فتخرسني….
تمرُّ فوق أوراقي فتبعثرني…
تمرُّ فوق جفني فتغمرني ببكاءٍ صامت.
يأسرني الحبُّ وأحنُّ…
كالأرض حين تفقد مطرها،
كالنهر حين يفقد ضفتاه،
كالعصفور حين ينام على غصنٍ وحيد..
يقسم أنه لن يبرح مكانه حتى يعود الربيع…
يا لمة بيتنا الأجمل …
الغافي بأحضان السرو عصية الاقتلاع…
المزنر بالياسمين والجوري ورائحة الحبق…
يا قهقهة الصبا فوق حطب الشتاء،
يا حضن جدتي الذي كان يسبق الحروب والزمن…
أقسم أني حين أغمض عيني في غربتي،…
أراك يا أمي…
تلبسين ثوب الطهر والدعاء….
تجمعينني من الدروب المتعبة….
و تعودين بي طفلاً يخبئ رأسه في كفيك.
أغمض عيني…..
فيمرّ وجهك فوق جفني،….
خفيفاً كطيف صلاة،…
وثقيلاً كجبل من لهفة….
أمد يدي فألمس ظل أبي…
متكئاً على رائحة القهوة في ظل دالية العنب ….
يبتسم لي من نافذة الغياب…
أهمس في أذن الوجع…
كل الغياب بلا ظل الأب يباب…
كل المنافي بلا حب الأم صحراء…
أطلق تنهيدة …
تتبعثر بين ضلوعي كأغنية مكسورة
وأمضي…
أحمل وطن في صدري….
أحمل دعوات أمي في حقيبتي….
أحمل ذكريات كأثقل أوزاري….
إلى آخر دروب الفقد ….
لكن سأعود يا أمي…
ونلتقي..
انتظريني عند ذاك الشط الجميل الذي غنينا في صباحاته …
وكان بائع الفل ينظر بعينان تتوسلان استفتاحية صباح …
انتظريني ..
نعيد خياطة ثوب الوطن …
الذي مزقته الوحوش …
على مقاسه بكل الألوان وربطات العنق الذي يحب ….
بعد تفتق ثقوب الدمع ..
انا وانت وكل المنتظرين ..
سنحلق حتماً….
نحو أفق جديد….
ووطن عتيد ….
وراية حب تجمعنا ولمة عيد….
اقرأ أيضا