فن و ثقافةكُتّاب وآراء

الأديبة السورية هيام سلوم تكتب لـ «30 يوم» : عنوانية الانسان.. حقيقة عوراء..

يقول نعوم تشومسكي في كتابه الشهير صناعة الموافقة والرضى (Consent):
“يتم تصنيع الموافقة عبر الإعلام ليقتنع الناس بما يخدم الأقوياء، عن طريق التكرار، التهويل، الإلهاء، والانتقائية في نقل الأحداث. النتيجة أننا لا نرى العالم كما هو، بل كما يُراد لنا أن نراه. الإعلام ليس ناقلًا للحقائق فحسب، بل صانعًا للرأي العام، حيث تتحول الحقيقة أحيانًا إلى كذبة.”

ورغم تمسكي بخصال ورثتها عن أبي وأمي، أحبها وأؤمن بها، إلا أني كثيرًا ما شعرت بأن الطريق الذي أسير فيه مليء بالعثرات المشوشة على طوله. أقصد أن أقول بصدق الشمس ووضوح النهار، كنت أجّل وأحترم كل من أضاء للبشرية، كل من أوقد شمعة، هز سريرًا، أو بكى أمام سفن الرحيل والموت والغربة.

أما أولئك الذين يستهويهم نشر العتم والفجيعة والدم لتحقيق مكاسب سلطوية أو دنيوية أو مذهبية أو شخصية، فهم وإن بدا أن بغالهم هي التي تفوز في سباق على الأحصنة، إلا أن البغال تبقى بغالًا، والأحصنة تبقى أحصنة. ورغم زهق أرواح رجال الخير ورجال الحرية، فهم أرقى وأسمى من تلك السكاكين الصدئة التي تحملها القلوب الشريرة، ومن الأمراض التي تحكمت في ضمائرهم. فالضمائر، سواء كانت مستترة أو معلنة، منفصلة أو متصلة، تبقى محفوظة في ألواح مخدّرة، سواء على الأرض أو في السماء.

ولعل أشد اللحظات بؤسًا وألمًا هي تلك التي يقهر فيها الآخر أو يستبد به، فالآخر فلسفيًا ليس إلا أنا في صورتها الكونية. أي شر يقع على مسيرة الآخر، أحلامه، شوقه للحياة والحرية، هو ذاته الشر الذي أصاب “أناي”. فالأنا تتربى في أجواء تعج برائحة الورود والعشق والإنسان والسفر، كلها حقوق ثنائية كونية رائعة، مبنية على طرفي معادلة الحياة: الآخر وأنا.

وأي مساس بركن من هذه المعادلة هو مساس بالمقدسات، بالأحلام، وبنظرة الطفل الذي يقف أمام المرآة يمشط شعره بفرح، ترى وجنتيه تتورد قبل أن يودع والدته ووالده، ويتجه إلى الروضة حيث يخطو خطواته الأولى في الكلام، ويكرج كما العصافير وهي تلاعب المطر.

حتى الثلج الذي يتراكم من حولي، يصبح بالنسبة لي طرفًا أخيرًا للفرح، لسعادة فلاح ينتظر المطر. ورغم أني لا أملك أرضًا أو ملكًا شخصيًا، إلا أن كل شجرة جميلة، حديقة، زرع، نهر أو بيدر، تملكني مشاعر امتلاكها، وتملأ قلبي بالفرح الكامل.

هذه أناي وهذا أنا، ولن أفرط بقيمي، حتى لو سقطت على أواردي كل مطارق الاستبداد والتطرف وحوافر البغض. ومن المأساوي أن الجهلة في مجتمعنا العربي قد أخذوا عبر سنوات التخلف أدوارًا ومسؤوليات لا يستحقونها، سياسية كانت أو دبلوماسية أو اقتصادية أو ثقافية.

يا لهول الكارثة حين تسيطر الأقزام—لا أقصد صغار الأجسام، بل صغار الأرواح والعقول—على دواير الحياة، ويغلقون النوافذ والأبواب، لأنهم من جيوش العتم، ومن حراس العدم، ومن الذين تكوي أبصارهم الحزم والضوء وباقات الشمس. هؤلاء، للأسف، يكتبون بمخالبهم المتسخة مستقبل الآخرين والناس والمواطنين.

ومن بين أكوام الثلج أقول: إن الهزيمة تتربص بهم بعد أن ألحقوها بأزمنة وسنوات وأعمار، وشربوا على فجيعتها أنخابهم. آن للشمس أن تسكب غضب نارها، وتطهر الأرض من كل الأوغاد الذين ابتليت بهم البشرية.

يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو: “لو اكتشفت شيئًا سيفيد بلدي لكنه سيضر العالم، فسأخفيه؛ لأنني فرنسي بالصدفة، لكن إنسان بالضرورة!”

صدق مونتسكيو، فكلنا بشر قبل أن نكون متعددي الجنسيات والأديان. لذا، فلنكتشف ما يفيدنا، لا ما يؤذينا. لنعمل على الخير الذي يجمعنا، لا التعصب الذي يفرقنا.

كن إنسانًا، بلا عنوان، بلا قيود، بلا حدود، مع الآخر قبل أن تكون مع نفسك. دع قلبك ومبادئك وهويتك الإنسانية تتقدم على كل الانتماءات الضيقة، لتصبح حاضرًا في هذا العالم ضوءًا يروي العقول ويهدي الأرواح.

فلتكن حياتك رحلة من ضوء، وأفعالك جسورًا تصل بين القلوب، وتكون كلماتك وعملك مرآة للصدق، للرحمة، وللحرية، وللحق الذي لا يزول. فالإنسان الحقيقي ليس من يحمل هوية أو جنسية، بل من يزرع الخير، ويعيش بلا كراهية، ويحب بلا شروط، ويقاوم الظلم بلا خوف. كن إنسانًا بلا عنوان، لأن العنوان الحقيقي هو قلبك، وإرادتك، وضميرك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى