سر عشق أم كلثوم لتركيا .. وأسباب عدم زيارتها بعد الحرب العالمية الثانية

كتب – عمر أبو الحسن :
“ليت شِعري كم مرّة استمعتم فيها إلى أم كلثوم، الصوت الكريستالي لراديو القاهرة؟ إنها تُطرِب الناس بصوتها المتلألئ، وبألحانها الرشيقة التي تسحر النفوس”. بهذه الكلمات قدَّمَت مجلّةُ “يِدِي غُن” (الأيام السبعة) التركية في ديسمبر 1936 خبراً مهمّاً للجمهور التركي، وهو أنّ “أمّ كلثوم، بُلبل الإذاعة المصريّة، ستبدأ التمثيل في الأفلام الغنائية”.
وبعد ثلاثة أعوامٍ بِيعت اثنتا عشرةَ مليون تذكرة لفيلم محمّد عبدالوهاب الشهير “دموع الحبّ” سنة 1939، حين كان عدد سكّان تركيا يربو على 17 مليون نسمة، و تسيّدَ المصريّون حينها نجوميةَ شبّاك تذاكر السينما في تركيا.
هذه الشهرة القديمة لأمّ كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وأنور وجدي وغيرهم تُخفي ما هو أبعد من الموسيقى والفنّ؛ فللأمر علاقة وثيقة بسياسات تركيا في خضمّ عمليّة تحديثٍ وتغريب كبيرة قادها مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه بعد تأسيس نظام الجمهورية في تركيا عام 1923.
وبالرغم من تلك الحملة الشعواء، زاد الاهتمام الشعبي بالموسيقى المصرية ربما لأن كل ممنوعٍ مرغوب، أو لعل الموسيقى العربية، لا الغربية، أقرب إلى الذائقة الشعبية التركية.
استهدفَت سياساتُ التغريب التي تبناها أتاتورك تأسيسَ قوميّةٍ تركيّةٍ متمايزة عن الدولة والإرث العثمانيَّيْن.
حظرت السلطةُ الموسيقى التركيّةَ التقليديةَ حينئذٍ رغبةً في “ثورةٍ موسيقيّةٍ” مبنيّة على أساس الموسيقى الغربيّة. لكنّ الجمهور التركيّ الذي قَبِلَ ـــ أو سايَرَ ـــ عدداً من القرارات الاجتماعية والدينيّة التي فرضَتها السلطة لم يستطع أن ينفصل عن إرثه الموسيقيّ العريق. وهنا برزَت أمّ كلثوم بأغانيها وعبد الوهّاب بألحانه وأفلامه ليساهما في حفاظ الأتراك على ذوقهم الموسيقيّ الشرقيّ، خلافَ ما أرادت السلطة التركية حينها.
ثم انتشرت الأفلام المصريّة الغنائيّة في تركيا انتشاراً كبيراً، إلا أن السلطات التركية حظرت الأفلام العربية وأغانيها رغبةً في دفع الجمهور نحو الغرب لا الشرق، بَيْد أن هذا الحظر شجع الفنانين الأتراك على ترجمة الأغاني والأفلام المصرية، فصارت خطوات السلطة لفصل الأتراك عن الموسيقى الشرقية خطوةً نحوَ تأثّر الموسيقى والسينما التركية الحديثة بالموسيقى والسينما الشرقيّة.
لم يكن لأم كلثوم ومثلها عبدالوهاب صلة بهذا السياق التغريبي، سوى أنّ إبداعهما تجاوز الحدود والاختلافات السياسية بين العالم العربي وتركيا الجديدة، وبين الشعب التركي وذوقه الموسيقيّ الشرقيّ المرتبط بالموسيقى العربية. وهذا الترابط والتأثير الفني بين التقليدَين الموسيقيين العربي والتركي هو عينه ما ينطلق منه الكاتب التركي مراد أوزيلدريم في كتابه “وحدة الموسيقى العربيّة والتركيّة في القرن العشرين”؛ إذ ناقَش هذه العلاقةَ الموسيقيّة المركَّبة بين الأتراك والعرب وحلَّلها وأرّخها.
وعلى أهمية هذا الكتاب والرؤية الجديدة التي يطرحها لعلاقة الموسيقى التركية بالعربية في النصف الأول من القرن العشرين متمثلة بكواكب لامعة مثل أم كلثوم وعبدالوهاب ومحاولات السلطة التركية الناشئة السيطرةَ على الذائقة الموسيقية التركية، فإن ذلك كان في سياق سعي أتاتورك ورفاقه إلى صوغ هُويّة جديدة لتركيا وشعبها؛ هُويّة تنهل من الثقافة ومظاهر الحياة والإدارة الغربية، وتبتعد عن إرث الأمة الذي بنَتْه الإمبراطورية العثمانية قروناً.
كثيراً ما قُرئَت ثورةُ أتاتورك باختزالٍ في العالم العربي.
فأتاتورك بَنى نظاماً يَفصل بين تركيا من جهة، والعالم العربي والثقافة العثمانية المرتبطة بالعربيّة من جهة أخرى. لَم يبتدع أتاتورك هذا النظام، فجذور بَعضه ضاربة في نقاشات المثقفين والمسؤولين بالدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي قبل عقودٍ من تأسيس الجمهوريّة التركيّة. يُمكن المحاجّة بأنَّ أتاتورك طبّقَ نسخةً أكثر تشدداً وصلابةً وقوميّةً، لكنّ ثورته التغريبيّة لم تُخلَق من بناتِ أفكاره على حين غفلةٍ من الزّمن.
بدايةً مُنِعَت المدارس الدينية في الجمهورية التركية التي أسَّسها أتاتورك، ثمّ حُدِّد عدد المساجد، وأُغلقت بعضها من ذوات الرمزية مثل جامع الفاتح، وحُوِّل مسجد آيا صوفيا إلى مُتحَف.
كان أبرز مَن اعترَض على هذه التغييرات هي الطرق الصوفية ومشايخها، وهي طرقٌ لها تأثير واسع في المجتمع التركي إلى اليوم.
كانت قبضة أتاتورك صلبةً لا تلين في مواجهة كلّ من عارَضه، حتى بعض رفاق سلاحه السابقين، فما إن عارضته الطرق الصوفية حتى حظرها جميعاً، ثم أغلق المزارات وقبور الأولياء والسلاطين، وحَصَر اللباس الديني أثناء الصلاة في المساجد فقط.
رغم حبها لتركيا رفضت أم كلثوم زيارتها بعد الحرب العالمية الثانية .. مالسر
بعد الحرب العالمية الثانية لم تزر أم كلثوم تركيا، بالرغم من شهرتها الواسعة هناك ورغبتها العارمة بزيارتها وتصريحها المتكرر للصحفيين بحبّها لتركيا.
يرى مؤلّف كتاب “وحدة الموسيقى التركيّة والعربيّة” أنّ حظر السلطات للأفلام العربيّة كان سبباً لعدم زيارتها تركيا، لما فيه من مساس مباشر بفنّها.
ويرى أن السبب الأكثر وضوحاً هو اعتراف تركيا بإسرائيل عام 1948، ثم انضمامها إلى الحلف الغربي في مواجهة الزعيم العربي آنذاك جمال عبد النّاصر، إذ إنّ لِأُمّ كلثوم التزامات وطنية وعلاقات مع الزعيم ورجال السلطة منَعَتها من زيارة تركيا.