محمد شكر يكتب لـ «30 يوم» : ملك الأردن نجى من فخ ترامب .. والقاهرة لن تقايض عروبتها بمساعدات لا تكفي سجائر المصريين

بلا عنتريات خاوية من منطق، وبلا مراوغات لإهدار الوقت أمام مخططات شيطانية امتدت لعقود، لن تقبل مصر بتصفية القضية الفلسطينية، ولو دُفعت دفعاً للحرب، حتى لو آثرت عدم الصدام مع الرجل البرتقالي، بتقديم مقترحٍ أخير لإعادة إعمار غزة دون إخراج أهلها، ودعوة ترامب للعمل مع مصر على تنفيذها بما يسهم في إنهاء جذورالصراع، لا طمعاً في مساعدات لم تعد تكفي لشراء سجائر المصريين، لا أسلحة وذخائر أمريكية محدودة، ورغم ذلك لن تجد مصر غضاضة في رفع السلاح -الذي لم يعد أمريكياً بالكامل- في وجه من يدفع الفلسطينيين قسراً نحو أراضيها، سواء كان إسرائيلياً أو أمريكياً، فلا مهادنة مع انتهاك السيادة الوطنية.
هي حرب نخوضها لثمانية عقود انتصاراً لفلسطين، وعروبة لم يرفع أحد سلاحاً قط لنصرتها إلا مصر، فلا تنتظروا الكثير من الآخرين، هي شريعة الغاب تحكم عالماً مقيتاً، وبلا انحياز لأخلاق أو قيم إنسانية، تباع الأوطان على أرصفة وول ستريت، وتنتهك القوانين الدولية بلا رادعٍ أممي، ليبقى شرف مصر سلاحها الدبلوماسي الأخير، وقواتها المسلحة الدرع الحامي، وقوة الردع القادرة على حماية حدودها، والانحياز إلى عروبة، ما زالت تفاضل بين الانحياز لموقف مصري شريف، أو لغاصب يود التسرب عبر أراضٍ عربية لنسف سيادة دولها، وتحويل الأمة العربية إلى باحة خلفية لدولة الاحتلال، باعتبار تل أبيب حارس المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فلا تضعوا الأردن في اختبار، بعد أن رهنت قرارها بالقرار المصري، ولا تهونوا من مواقف مصر التي ترتقي درجات سلم التصعيد بحكمة، مع إدراكها لما يحاك لها وللمنطقة، فمصر لن تقايض عروبتها بمساعدات يمثل وقفها إخلالاً بمعاهدة كامب ديفيد، وهو مالا يدركه ترامب حتى الآن، فهو ما زال في زهوة انتصاره، يسابق الزمن لتقديم مكاسب أكبر للأمريكيين، على أمل أن يقوم بما لم يقم به رئيس أمريكي سابق في دفع الاقتصاد وتقليص ديون الولايات المتحدة التي تجاوزت 36 تريليون دولار، ومحو التضخم الأمريكي بكسر اتفاقية باريس للمناخ، وابتزاز الرياض لامتصاص تريليون دولار من احتياطياتتها النقدية، وسرقة ثروات المعادن النادرة في أوكرانيا بقيمة نصف تريليون دولار كبداية، والاستحواذ على الواجهة الساحلية لغزة وبيعها بمليارات الدولارات بعد تحميل السعودية كلفة بنائها إرضاءً لصهره جاريد كوشنر، ليمنح ترامب الكثير للأمريكيين، لا لكرمٍ اصطبغت به ولايته الثانية، ولكن تمهيداً لما لم يقم به رئيس أمريكي سابق، بتمزيق المادة الثانية من الدستور الأمريكي، والظفر بولاية ثالثة وربما رابعة، فمغامرات ولصوصية ترامب حول العالم تستهدف رشوة الأمريكيين مقابل السماح له بحكم مديد، هي صفقة أخرى ألمح إليها على استحياء، متوارياً خلف العواصف التي يثيرها في الخارج، بينما يثير إيلون ماسك العواصف في الداخل بتحرشه بالحكومة الفيدرالية، والوزارات السيادية سعياً لخفض النفقات وبالتالي تقليص مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب.
ولأن الولايات المتحدة امتطت العالم بالتزامن مع إعلان إسرائيل لدولتها الغاصبة، وجد محترفو الإبادة والتطهير العرقي فيها وسيلة لتمزيق المنطقة الأكثر ثراءً من الولايات المتحدة نفسها، وامعنوا في إضعاف حضاراتها العريقة، مقابل تكرار السيناريو المنفذ في أراضي العالم الجديد، لتقسم إسرائيل الحدود البرية للوطن العربي إلى قسمين، ومع بث الفرقة وإضعاف الدول العربية بالاقتتال العربي العربي، والاقتتال الطائفي، يرى الرئيس الامريكي الجديد، الذي أمن جبهته الداخلية قبل أن يجلس على مقعد المكتب البيضاوي، بالحصول على أغلبية الكونجرس، أن وقت قطف ثمار مخططات بلاده طويلة المدى قد حان، وعلى عكس الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لم يجنح إلى سياسة المؤامرات والتفكيك والضغط السياسي لتحقيق مآربه، فهو فاشي كما وصفه منافسوه، ويرى في الطغاة نموذجاً يحتذى به في طريقة حكمه، فلم يعد هناك حزب ديمقراطي لردعه، بعد أن دمره ضعف جو بايدن وتزييف كامالا هاريس، ولم تعد هناك أغلبية ديمقراطية يمكن أن تعرقل خطواته النازية لابتلاع ثروات العالم، حتى نانسي بيلوسي التي عرقلت مخططاته في فترته الرئاسية الأولى انسحبت من المشهد السياسي بفعل هزيمة حزبها المخزية، فاليمين يحكم العالم في الولايات المتحدة وفي إسرائيل، ويكاد يبتلع كبرى الدول الأوروبية، ولم يعد هناك مناصراً للقضايا العربية، بعد أن أنهكت واشنطن العالم، بتضخم وأزمات اقتصادية نجحت من خلالها في إضعاف الصين، وتدمير العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية حول العالم.
الآن يقف ترامب وحيداً ضد العالم بأكمله، وعلى الجميع الاتحاد لوقف انتهازية متنامية لرجل لا يعرف سوى لغة القوة، ويمكن للدول العربية أن توجعه ليعود إلى رشده، فهو ممثل هزلي رديء، وما يقوم به من إثارة للفوضى حول العالم، استراتيجية تفاوض لا تليق بالدول الكبيرة، فسعيه وراء قناة بنما لم يكن يستهدف أكثر من خفض لرسوم عبور السفن الأمريكية، ولكن الضغط المتنامي دفع بنما لإعلان خروجها من مبادرة الحزام والطريق، ليقطع اتصال حزام الصين ويضع العثرات في طريق طموحاتها لتوسيع أسواقها، وغزة والمنطقة لا ينفصلا عن هدف ترامب الكبير بعرقلة الصين، فهو رجل أعمال جشع ولا يريد لمنافسيه تحقيق المكاسب، فإفراغ غزة لا يهدف إلى حفر قناة بن جوريون كبديل لقناة السويس التي دخلت ضمن مشروع إحياء طريق الحرير الصيني، فمشروع القناة الإسرائيلية ولد ميتاً، لكلفة حفرها المرتفعة وعدم جدواها اقتصادياً، ولكن تهجير سكان غزة يهدف إلى إبعاد المقاومة لعدم الإضرار بمشروع أكثر جدوى، باعه نتنياهو لترامب الذي وجد فيه ضالته لقطع الحزام الذي ضربته الصين حول العالم.
ومع عدم إذعان مصر للضغوط التي أخرجت الأرجنتين من بريكس، ودفعت بنما للتخلي عن الحزام والطريق، تحولت خطط ترامب لاستبدال قناة السويس بممر بري، رفع نتنياهو خرائطه في الأمم المتحدة قبل أشهر، يبدأ من ميناء حيفا مخترقاً دول الخليج عبر الأردن لينتهي بالهند، وهو الممر الذي يتجنب حصار الحوثيين لمضيق باب المندب من جهة، وقراصنة القرن الأفريقي من جهة أخرى، ويقلص المسافة وبالتالي نفقات عبور السلع والبضائع إلى إسرائيل، كهدف غير نهائي، مع امتداد الممر التجاري من ميناء حيفا إلى أوروبا، وهو ما يجعل إسرائيل حلقة الوصل بين أوروبا وآسيا، فهم لا يريدون من غزة سوى شمالها المدمر، لإقامة منطقة عازلة تحول بين أي عمليات للمقاومة، وما بين قتال للحفاظ على قضية فلسطين المعقدة، والمشروع الطموح الذي يضعف مصر اقتصادياً، ويقلص من نفوذها الجيوسياسي في الإقليم، قد يتراجع ترامب بانسحاب مصر من بريكس ومبادرة الحزام والطريق الصينية، وهو ما لن تقوم به القاهرة التي تتسرب رويداً رويداً من بين قيود واشنطن.
وتقف مصر مسلحة باحترامها للقانون الدولي الذي يخترقه ترامب شفاهةً، ويضرب به كلبه الأليف عرض الحائط فعلاً وقولاً، في مواجهة المشروع الذي باعه نتنياهو لترامب، في اليوم التالي لخطابه في الأمم المتحدة، وخلال الأشهر الماضية يتم العمل على آليات تنفيذه، الذي لا يشترط بالمناسبة إبعاد كامل سكان غزة، بل أن الضفة الغربية قد تمثل أزمة أكبر بالنسبة لمسار المشروع، لهذا بدأت عملية الجدار الحديدي في الضفة الغربية بهدف التهجير إلى الأردن، التي لا تجد غضاضة في الانخراط بالمشروع دون تهجير، مع توقيعها اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولم يبق أمام ترامب سوى السعودية التي يأمل أن تمنحه جائزة نوبل لوساطته في تطبيعها مع دولة الاحتلال، وبمجرد اكتمال المشروع سيعمل ترامب على أن تغادر الهند بريكس، مع تنامي الأزمات الحدودية بينها وبين الصين، والخلافات الجوهرية في تحالفات كلا الجانبين، ليحقق ترامب نصراً اقتصادياً كبيراً يؤكد سيادته وسيادة بلاده للعالم، لتودع الصين أحلامها بسحب البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة، مع مساعي ترامب لإحباط خطوات إقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
ولا يجب أن يشغلنا توريط ترامب للعاهل الأردني بوضعه عنوة أمام كتائب الإعلام الغربي، فالملك عبد الله يعلم أن ترامب يناور، ومن يلاحظ تصريحاته سيجد أنه يقول الأمر وينفيه في اليوم التالي، ثم يُصعّد قبل أن يتراجع، وهي استراتيجية عتيقة يتبعها في صفقاته، فالأردن لا تتحمل ما يحاول إلقائه عليها من أعباء، ولن تصمد في مواجهة الضغط إلا بمساندة عربية لا بهجوم وتخوين مبكر، رغم أن الشعب الأردني لن يسمح بالتهجير ولو وافق الملك عبد الله الثاني، والأمر نفسه قاله الرئيس المصري رداً على تصريحات ترامب، لإدراك كلا الزعيمين العربيين مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة لشعبيهما، وإذا كانت الأردن قد تتأثر بعقاب ترامب وقطع المساعدات، فلن تتأثر مصر، رغم عدم تعافي اقتصادها بعد، وعلى الدول العربية دعم الأردن ومصر باعتبارهما من دول المواجهة، خاصةً وأن الأردن رهنت قرارها بمصر ورؤيتها، واستهداف الأراضي السعودية سيبدأ باخراق الأردن التي تعد الحد الجغرافي الفاصل بين السعودية ودولة الاحتلال، فهو يجعل من عملية التهجير بوابة لاستيلائه على الأراضي الأردنية والتماس المباشر مع الحدود السعودية، والأمر نفسه بالنسبة لمصر، مع خطط مستقبلية أبعد تهدف لإضعاف قواتها المسلحة أولاً ثم الاختراق عبر سيناء، للاستحواذ على شرق مصر وفقاً للخريطة التوراتية المزيفة، فالرئيس السيسي أرجأ زيارته إلى البيت الأبيض، وعلى ترامب انتظار الخطة المصرية المعلنة في بيان الخارجية، لقطع الطريق على ادعاءات ترامب الإنسانية تجاه الفلسطينيين في غزة، مع العلم أن ملك الأردن لم يقدم تنازلات بل استند إلى ظهيره العربي، ونجى بنفسه من ترامب الذي لن يتركه إلا بعد أن يمنحه شيئاً، معلنا أن اقصى ما قد يساعد ترامب به هو استقبال ألفي طفل فلسطيني مصاب بالسرطان لتلقي الرعاية الطبية في بلاده، محيلاً الرؤية إلى مصر، والموقف الجمعي العربي للتفاوض الشامل مع القادة العرب، ولأن الدبلوماسية لم تعد خياراً في الشرق الأوسط، أصبح الرهان الآن على السعودية باعتبارها صيداً ثمينا لترامب ونتنياهو، فما لا يدرك كله لا يترك كله، وجميع الجبهات فتحت دون قدرة من ترامب أو كلبه الأليف على غلقها، فما سيلقيه العرب إليهما من عظام سيأخذانه راضين، وما علينا الآن سوى الاتفاق والتوحد والوقوف جنباً إلى جنب لعبور السنوات الأربع العجاف، والتي قد لا يكملها ترامب بتعرضه لمحاولة اغتيال جديدة، أو بثورة دستورية داخلية تمزق إدارته بعد مخططاته لتعديل الدستور الأمريكي، فما يقوم به لن يبقى دون عقاب، والمرحلة الحالية استكشافية لدراسة الخصوم، والرسائل عديدة بعد تخلي ترامب عن الاتحاد الأوروبي، وانحياز دوله لحل الدولتين ومعارضة مخططات التهجير علناً، وقد تكون مكالمة الرئيس السيسي مع رئيسة وزراء الدنمارك، التي يسعى ترامب لانتزاع جرينلاند من تحت تاجها، رسالة آخرى على أن الأضداد لن يبقوا متباعدين في مواجهة ثور هائج، فالعالم أصبح في جانب وترامب في الجانب الآخر، وهو أمر مطمئن لا يثير القلق، فاطمئنوا طالما مصر باقية.
اقرأ أيضا