كُتّاب وآراء

محمد شكر يكتب : رسائل التنصيب .. مسمار ترامب الأول في نعش الولايات المتحدة

يبدو أن وهج المكتب البيضاوي يثير لدى الرئيس المنتخب دونالد ترامب شهوة مفرطة للكلام، ربما لأنه أعاد ما تضمنته خطابات التنصيب الثلاثة، في أول جلوس على عرش البيت الأبيض خلال ولايته الثانية، ولكونه شخصية تلفزيونية بامتياز، رأى ترامب أن جلوسه الأول، يستوجب حضوراً إعلامياً يليق بانتصاره الساحق، باعتباره الرئيس السابع والأربعين، قاهر الديمقراطيين، ومطارد المهاجرين، الذي كشر عن أنيابه مجدداً ليكرر الزئير ذاته طوال الساعات الأولى التي تبعت تنصيبه.
العصر الذهبي الجديد لدونالد ترامب، أو للولايات المتحدة كما أشار الرئيس المنتخب، كان بوابة مروره نحو إذلال بايدن ونائبته هاريس، ومحو أي منجز قدمته إدارتهما للأمريكيين، بتوقيع أوامر تنفيذية لوقف نحو 80 قرارا اتخذهم الرئيس السابق خلال سنوات ولايته في دقائق معدودة، والأخطر هو تأكيد انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، حتى مع تنامي خسائر حرائق التغيرات المناخية في لوس أنجلوس، لتتجاوز كلفتها نصف تريليون دولار، باعتبارها الكارثة المناخية الأكثر كلفة في تاريخ الولايات المتحدة والعالم.

فترامب دائما ينظر حيث يقف، ولا يمتلك رؤية بانورامية لعالم يمثل سوقاً أمريكياً كبيراً، وملعباً اقتصادياً لن تقوى بلاده على استعادة أطراف بساطه من تحت أقدام الصين، بفرض التعريفات والرسوم الجمركية دون عدالة في فرص الاستثمار وتبادل المصالح، فما يقوم به ترامب الآن مجرد جباية، واستغلال لموارد كربونية محلية، رأت الإدارات السابقة اختزانها للأجيال اللاحقة، وامتصاص الوقود والطاقة من العالم، حتى تجف موارده ولا يبقى سوى احتياطيات الولايات المتحدة المتنامية، لهذا فتجاهل ثورة الأرض، والتحول لتوفير احتياجات السوق المحلي بغض النظر عن رسائل التغيرات المناخية المدمرة، ستكلف ترامب تريليونات الدولارات خلال رئاسته الثانية، والعمل على اختزال الولايات المتحدة في كونها مجرد سوق كغيره من الأسواق التي تستهدفها الدول المنتجة حول العالم، رغم أنها سوقاً يمكن تعويضه دون خسائر قاتلة، يمثل تراجعاً يمكن أن يبدد خطط ترامب للقضاء على التضخم، في مواجهة الإجراءات المضادة للدول المنافسة، لهذا فاستمرار ترامب في مسار “أمريكا أولا”، يمثل مسماراً في نعش بلاده، مع الانكفاء على الداخل، مقابل تآكل النفوذ الخارجي في ظل وجود لاعبين دوليين يتحينون الفرصة للانقضاض على ميراث الولايات المتحدة.

وإذا لم يدرك ترامب خطورة ما تمثله الطبيعة من تحديات قد تضرب منتجعاته وأصوله المليارية، قبل أن تفشل خططه الاقتصادية بتكرار خسائر كوارث التغيرات المناخية، فعليه أيضاً ألا يسرف في إنفاق المزيد من الأموال مع التلويح بورقة الجيش الأمريكي، في بنما، التي يهدد قناتها نكاية في الصين، لا رغبة في الاستحواذ عليها مع خسائرها الكبيرة، التي دفعت الولايات المتحدة للتخلي عنها في تسعينيات القرن الماضي، فهو لا يريدها على الإطلاق، بل يريد خصماً على رسوم العبور، وإزاحة لشركات صينية بات لها موضع قدمٍ بالقرب من الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، كما أنه لا يريد جرينلاند، بل يريد أن يتجاوزها إلى ما بعدها، مع تتابع التقارير حول ثروات القطب الشمالي، التي تحول جرينلاند وكندا في الغرب وروسيا في الشرق بينه وبين الاغتراف من بحاره المتجمدة، فوفقاً لرؤية الراحل جمال حمدان في “استراتيجية الاستعمار والتحرير”، ليس من مصلحة الولايات المتحدة تغيير حدودها مع كندا أو المكسيك، مع خطورة ذلك على الأمن القومي الامريكي، لهذا فليس كل ما يقال يمكن تصديقه، باستثناء إعلان ترامب أمس حالة طوارئ غير محددة المدة على الحدود الجنوبية للبلاد، متوهماً أن تسخير أقوى جيش في العالم لردع المهاجرين الطامعين في حلم أمريكي زائف، سيحمي الولايات المتحدة واقتصادها المرهون من وجهة نظر ترامب بسرقة هؤلاء لأرزاق ووظائف الأمريكيين، متناسياً الكلفة الضخمة التي تترتب على إرسال عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى الجنوب، هي مليارات مهدرة كتلك الموجهة إلى أوكرانيا، التي تحدث عنها مراراً في اليوم نفسه، منتقداً إدارة بايدن بشأن إنفاق 200 مليار دولار لدعم تسليح أوكرانيا، بما يفوق ميزانية دعم حلف الناتو، لهذا لا تنتظروا من ترامب الكثير، لأن محاولاته لإثبات قدرته على تنفيذ وعوده الشعبوية، ستسهم في استنزاف ميزانيات ضخمة، يعول على تعويضها بسحب قوات أمريكية تتناثر في بقاع مختلفة من العالم، ليتخلى عن سيادة عالمية تمكنه من إملاء شروطه، مقابل أوهام خفض التضخم.

ترامب

ولا شك أن عهد ترامب سيكون ذهبياً للعالم أجمع لا للولايات المتحدة، في حالة تنفيذ استراتيجية “أمريكا أولاً”، لأنها لن تمنح الولايات المتحدة سوى المزيد من الخسائر الاقتصادية التي يعول على تعويضها، بدفع السعودية إلى صفقة أسلحة جديدة بنصف تريليون دولار، لمجرد تخفيف حدة التضخم في الداخل الأمريكي -على حد تعبيره-، أو بابتزاز “تيك توك” لابتلاع نصف إيراداته بشراكة جبرية، مع وعود فوقية برفع قيمته إلى تريليون دولار، فالتعامل مع العالم بسياسة الصفقات، قد يصلح في جني الشركات لمليارات الدولارات، ولكن العلاقات المتشابكة بين الدول وبعضها البعض، تختلف كثيراً عن تصورات ترامب القاصرة، التي لا تجري حسابات دقيقة لرد فعل الطرف الآخر، فلن يحقق ترامب ما حققه في ولايته الأولى، ولن ينجح في ابتزاز الصين كثيراً، لأنها استعدت لقدومه إلى البيت الأبيض، كما أنه لن يظفر بصفقة النصف تريليون دولار من الرياض، بعد إضعاف إيران خلال العامين الماضيين، وانتظار نظامها رصاصة الرحمة من نتنياهو أو ترامب أو كلاهما مجتمعين، فالعالم تغير كثيراً خلال أربع سنوات، ولكن ترامب ما زال يكرر سيناريوهات السنوات الأخيرة من العقد الماضي، معتقداً أن “أمريكا لا تحتاج أحدا.. والجميع يحتاجون إليها” -وفق ما قاله أمس-، حتى رهانه على إنهاء حرب أوكرانيا، لم يعد رهاناً مضموناً رغم رسائل بوتين الإيجابية، لأنه سيضطر للوقوف في مواجهة أوروبا لتحقيق مآربه، معتقداً ان بإمكانه عزل روسيا عن الصين، استعداداً لمعركة مؤجلة مع تنين لم ينفث لهبه بعد في وجه ترامب، لهذا يمكن اختزال خطاب التنصيب الذي تحول إلى عدة خطابات مكررة في اليوم نفسه، بأنه ضجيج بلا طحين، ودعاية مجانية الهدف منها انتزاع المزيد من التصفيق الذي يرضي غرور ممثل ردئ، انتزع مكانه عنوة على خشبة المسرح السياسي.

اقرأ أيضا للكاتب محمد شكر 

محمد شكر يكتب : ترامب يمزق اتفاقية باريس .. والأرض تشن هجوما مضادا على لوس أنجلوس

محمد شكر يكتب : نبيل الحلفاوي .. ضمير النجوم وسفير الحقيقة الأكثر تطرفاً للوطن وانحيازاً للإبداع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى