محمد خراجة يكتب .. المماليك و الشركاء
يسألونك عن المماليك، قل المماليك مجموعات من البشر كانوا يُجلبون من بلاد القوقاز وآسيا الصغرى وشتات الأرض، ويُباعون في سوق النِّخاسة، وكان أول من استعان بهم الصالح نجم الدين أيوب؛ سلطان مصر؛ حيث كوَّن منهم الحامية والجيش للدفاع عن الدين والأوطان، ثم تدرجوا في المناصب؛ حتى أصبحوا في سُدَّة الحكم ، فحكموا المنطقة العربية من عام 1250 حتى عام 1517؛ أي لمدة 267 عامًا.
تولَّى الحكم خلال هذه المدة 49 سلطانًا، كانوا حماة حقيقيين للدين، وكانوا الأكثر حفاظًا على الأوطان.
أما الشركاء؛ فهم حكام المنطقة العربية كما يسميهم الغرب وعلى رأسهم أمريكا؛ إذ زرعهم الاحتلال الغربي قبل أن يرحل عن الوطن العربي؛ بغرض السيطرة على الشعوب العربية من خلال هؤلاء الذين يأتمرون بالأوامر الغربية أو الشريك الغربي الذي يسيطر عليهم؛ ليحكموا المنطقة بالنيابة عن الغرب وبالتنسيق معه، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
وما دعاني للكتابة في هذا الموضوع والمقارنة بين حكم المماليك والحكام العرب – شركاء المنطقة – هو العدوان الصهيوني الغاشم على غزة بمعاونة ومباركة الغرب الصليبي الذي زرع ذلك الجسم السرطاني في قلب الوطن العربي؛ حيث صمت هؤلاء الحكام وبذلوا محاولات مستميتة لإسكات وتخويف شعوبهم، ورؤيتهم لتحرك أجهزة المخابرات ضد شعب يدافع عن نفسه وحقوقه.
إنَّ الأخطاء والمهازل التي يرتكبها الحكام والقادة العرب مخزية للغاية؛ فلم ينطق واحد منهم بكلمة، أو أصدر بيانًا موجهًا للغرب الذي جاء بكل أسلحته ضد شعب يقاوم احتلالًا من أجل الحرية والعيش بكرامة وتحرير أرضه المحتلة، ويحمي مقدساته.
لقد زار حكام أكبر أربع دول غربية الأراضي المحتلة ليعلنوا تضامنهم مع الكيان الصهيوني، فكان للقادة العرب موقف مخزٍ يدعو للأسي والسخرية.
جاء حكم المماليك للمنطقة العربية بعد تلاشي الدولة العباسية وسقوط الدولة الأيوبية؛ فشهد العالم العربي أحد أزهي العصور، خاصة خلال الفترة الأولي التي بلغت نحو 134عامًا، والتي دافعوا فيها عن ديار العروبة والإسلام.
وكانت القاهرة في تلك الفترة هي عاصمة العلم والعلماء، وأكبر وأعظم مدينة اقتصادية في العالم، وبها مبانٍ تليق بالعظمة والقوة التي وصلت إليها الدولة المملوكية.
كان لدى المماليك حس جهادي؛ لأن الفرد المملوكي منهم لم يكن ينال حريته أو يترقى، إلا إذا تعلم علوم الدين والفقه، وأتقن الفروسية؛ حيث يلتقي عنصرا الدين والفروسية مع الجرأة والشجاعة.
تصدي المماليك للمغول والصلبيين عندما هددا العالم العربي؛ فكانت الحملة الصليبية الأولى عام 1099، فحافظوا على مدار نحو أربعة قرون على الهوية الثقافية والحضارية، وكانوا حماةً للعقيدة؛ فصدوا وقضوا على كل الحملات الصليبية، ومحوا المغول وأدخلوهم في الإسلام.
لم يكن المماليك من أهل البلاد العربية، ولكنهم كانوا أكثر إخلاصًا للعقيدة وللأوطان، ولديهم جرأة وحمية وشدة مع العدو،فبسطوا سلطان مصر على الجزيرة العربية والشام.
ويوم أن تراجع اهتمام المماليك بالجهاد، وركنوا إلى حياة الرفاهية والرخاء، واستكانوا للدعة ورغد العيش، ضاعت هيبتهم؛ حتى حلت محلهم الدولة العثمانية.
عندما هاجم قراصنة من قبرص بعض الشؤاطي العربية، رد عليهم السلطان المملوكي بمثل ما فعلوا، ثم غزا قبرص واحتلها، ولم يتركها، إلا بوساطة ملوك وقادة أوروبا بعد أن فرض شروطه.
وبخلاف حكام العرب حاليًا، كان للمماليك فضل كبير في الدفاع عن الإسلام وحماية الأوطان؛ إذ كان هدفهم هو الحفاظ على العقيدة، وحماية الأوطان، والحفاظ على كرامة الأمة؛ وذلك من منطلق شجاعتهم وصدقهم في الجهاد، واعتزازهم بفضل الدين عليهم؛ فهو الذي صنعهم، وجعل منهم حكامًا على أبناء الشعوب العربية الأصليين.
أما الحكام العرب – شركاء المنطقة – كما يسميهم الغرب؛ فهم لا يفعلون شيئًا، بل يلتزمون الصمت؛ ما جعل العار يطبق على جسد الأمة العربية الميت في نظر العالم؛ بسبب هؤلاء الحكام لتنفيذهم التخطيط الممنهج الذي وضعه الغرب لاغتيال المنطقة العربية فكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.
ومازال شعب غزة المجاهد صامدًا، بل ويفرض شروطه على العالم الغربي- الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية- الذي يقف مع عدو فاقد للإنسانية والرحمة، ضد شعب أعزل، محاصر من كل الجهات، بينما يقف الحكام العرب متفرجين.
لم يشهد العالم من قبل زيارة رؤساء أربع دول للأراضي الفلسطينية المحتلة لمناصرة العدو المحتل؛ حتى إن رئيس الوزراء البريطاني جاء على متن طائرة عسكرية محملة بالأسلحة، دون اعتراض حاكم عربي واحد؛ ما يشير إلى تؤاطؤ الحكام العرب على المقاومة.
وفي حين وقف الغرب عاجزًا أمام روسيا في حربها مع أوكرانيا؛ كونها حرب حدود سياسية، وليست حرب عقيدة، وصلت السياسة الصهيونية لأبعد غايتها بما يحدث في الأراضي المحتلة؛ إذ قدم الغرب للكيان الصهيوني كل وسائل الدعم اللامحدود للاعتداء الوحشي علي غزة؛ وهو ما يُظهِر الحقد والكراهية بمساندته الفجة لهذه العصابات ضد شعب أعزل، في ظل وقوف الحكام العرب – شركاء المنطقة – متفرجين عاجزين عن المساندة ولو بالكلام.
إنَّ مايقوم به الكيان المحتل حاليًا هو صراع عقائدي طويل وشاق؛ ما يعني أنه لابد أن يسحق فيه طرفٌ الآخر، فلا مجال فيه لأنصاف الحلول، أو التسويات المبتورة؛ لأن الغرب جاء برجاله إلى سُدة الحكم في المنطقة العربية – شركاء المنطقة – ؛ ما يتطلب من الشعوب العربية أن تفيق وتنتفض.
وأرى أن وقوف الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية مع الكيان الصهيوني في عدوانه الوحشي على غزة، مع صمت الحكام العرب، لن يقضي على المقاومة؛ إذ لايدركون أن المقاومة فكرة وتحدٍ وعقيدة؛ فالفكرة لا تموت، والعقيدة لاتُقاوَم ، والتحدي لا ينتهي مع وجود الإرادة والصمود.
والمشكلة الحقيقية التي تواجه مقاومة أهل غزة، تكمن في الحكام العرب الذين يعملون على إسكات شعوبهم، إلا أنهم لايدركون أن المقاومة المؤمنة بعدالة قضيتها ستظل تدافع عن الأراضي المقدسة، ولن تزيدهم المحن إلا قوة وصلابة وعزيمة؛ إذ تتساوي لديهم الحياة والموت؛ لأنه شهادة في سبيل الدفاع عن الدين والعرض والأرض؛ فهو ليس النهاية، بل بداية الحياة الأبدية في جنات رب العالمين.
كل هذه المؤامرات لن تنال من إرادة المقاومة، بل سيعيش الغرب والكيان الصهيوني وشركاء المنطقة كذبة القضاء على المقاومة – حماس- لأن شجرة الإيمان الخالدة دائمًا ما تورق المقاومة؛ لأنها تدافع عن الحق.
ما يحدث الآن في غزة ليس نهاية المطاف، وإنما بداية النهاية لإحياء القضية والعودة بها إلى المشهد؛ إذ تشير الدلائل إلى صراع لم ينتهِ. وكل ما حدث في الماضي ويقع اليوم، يمهد لمواصلتها لإظهار الحق، ويدفع بها إلى الأمام للسير في طريقها؛ فهي حرب ستكون طويلة المدى، مجهولة النتائج لمن لم يؤمنوا بالوعد الإلهي؛ فأية أوضاع ستخلفها هذه الجولة، ستُظهر رجالًا مهمتهم تحرير هذه الأرض بكل عزم وإيمان كامل بالعدل الإلهي ؛ إذ وعد الله سبحانه وتعالى عباده برجال يدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة: ” إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ” (7-الإسراء).
إن صمت الحكام العرب أمام عدو ضعيف هو قمة المهانة والذل والانكسار، ودليل واضح على تنسيقهم مع الغرب؛ لأنهم اتباع لهم؛ إذ لم تختارهم شعوبهم، وإنما هم زراعة غربية؛ لذا تجدهم مشغولين بمحاربة شعوبهم، والحفاظ على كراسيهم؛ من خلال خروجهم عن منهج العقيدة، وتسطيح الفكر الديني، وتشويه كل متمسك بدينه ووصفه بأنه إرهابي.
وليس الصراع الدائر الآن على أرض فلسطين وليد اليوم؛ إذ شنَّ الغرب أكثر من سبع حملات صليبية على المنطقة العربية بغرض احتلالها، لكنها باءت كلها بالفشل؛ بسبب يقظة الحكام المماليك وإيمانهم بدينهم وبالأوطان التي يحكمونها ويعيشون فيها؛ ويقينهم بأنهم راحلون عن هذه الدنيا؛ لذا لم يكونوا يومًا شركاء للغرب؛ فلو كان لدى الحكام العرب بصيرة، ويوقنون بأنهم راحلون عن الدنيا لا محالة، لتحركوا لمناصرة غزة قبل أن يحاسبهم الله- سبحانه وتعالى- على تقاعسهم، بل إن التاريخ سيلعنهم، مثلما لعن من فرَّط في عقيدته ووطنه.
على ارض فلسطين، سيكتب التاريخ كلمته الفاصلة في الصراع الدامي؛ صراع الوجود، وليس صراع الحدود؛ لذا نقول للحكام العرب إن التساهل مع أصحاب الباطل لا يزيدهم إلا شراهة في العدوان واغتصاب الحقوق وإذلال من يخضع لهم؛ إذ نُزِعت الرحمة من قلوبهم، وتتملكهم الوحشية والغلظة.
ومن عجب العجاب، أن يقف العرب عاجزين عن نصرة غزة ، على الرغم مما لديهم من إمكانيات هائلة، وموارد وقوى بشرية، وجيوش يصل تعدادها إلى نحو 4 ملايين جندي، واستوردوا أسلحة العام الماضي بنحو 125 مليار دولار، كما تأتي 4 دول عربية ضمن قائمة أكبر عشر دول مستوردة للسلاح على مستوى العالم، إلا أنها توضع في المخازن.
ولا شك في أن الحكام العرب يدركون تمامًا أن الغرب هو من أوجد الكيان الصهيوني في فلسطين وفق خطة مرسومة منذ ألف عام، تضمنت تقسيم الوطن العربي وفق اتفاقية سايكس – بيكو، التي قال بعدها المرشال اللنبي :”اليوم انتهت الحرب الصليبية، وعلينا السيطرة فكريًا على العرب وزرع العملاء في سدة الحكم؛ لتخويف الشعوب، ومحاربة الدين، والقضاء على التماسك الاجتماعي في الوطن العربي”.
ومع ظهور بوادر الهدنة، أرى أن ما حدث خلال 47 يومًا كان معركة غير متكافئة بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني الذي لم يحقق انتصارًا علي الأرض، بل نجحت المقاومة في إفشال المخطط الجهنمي الذي كان مُعدًا للمنطقة.
إنَّ الحكام العرب يسَّخِرون أنفسهم لخدمة حلفائهم في المنطقة، والدليل ما حدث في القمة العربية الإسلامية؛ حيث اعترضت تسع دول عربية على بعض القرارات التي تُرغِم العدو على وقف عدوانه الغاشم.
إذا كان الحكام العرب يظنون أنهم بعيدون عن الخطر الصهيوني المتزايد فهم واهمون؛ فالدارسون للتاريخ يعرفون ما حدث من القشتاليين ضد ملوك الطوائف في الأندلس؛ فالغرب لا يحترم المواثيق والأعراف، ولا يحترم الضعفاء، ولا تفيد مداهنتهم أبدًا.
الكيان الصهيوني يقتل سكان غزة من مرضى وأطفال ونساء بوحشية، بل خالف كل المواثيق الدولية بقصف المستشفيات بمن فيها من مرضى، وهو مطمئن أنه لن يُحاسب؛ كون الغرب يؤيده تمامًا في عدوانه، كما أن الحكام العرب لن يحركوا ساكنًا، علاوة على موت الضمير العالمي المتمثل في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وغيرهما، فضلًا عن أن القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية والعدو المغتصب لم يكن لها أثر مطلقًا إلا على الورق.
إنَّ الصراع لم ينتهِ، ولن يتمكن الكيان الصهيوني من القضاء على المقاومة التي أرغمته المقاومة على الموافقة على هدنة بشروطها؛ ليعلم أنها إرادتها لن تنكسر مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحقِّ، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأْواءَ، فهُم كالإناءِ بين الأَكَلةِ؛ حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم كذلك. قالوا يا رسولَ الله: وأين هم، قال ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدسِ”
لقد انكشف المستور، وظهر التآمر، والله – سبحانه وتعالى-من وراء القصد، وهو نعم النصير.