محمد شكر يكتب : ترامب يمزق اتفاقية باريس .. والأرض تشن هجوما مضادا على لوس أنجلوس
لم تكن الولايات المتحدة يوماً صديقة للأرض، ولنحو قرنين ماضيين، ربطتهما علاقة استنزاف معقدة من جانب المستعمرون الجدد للشطر الغربي، مقابل استسلام غير مشروط لطبيعة كانت أكثر وداعة لملايين السنوات، قبل أن تكشر عن أنيابها بمرور الوقت، وهو الوقت الذي كان كفيلاً بصعود الولايات المتحدة إلى صدارة المشهد العالمي، لتحدد واشنطن رويداً رويداً درجات السُلم الذي تعتلي قمته لثماني عقود، مستندة إلى “دولار” فرضته فرضا على القوى الاستعمارية السابقة، في غابات “بريتون وودز”، كثمن لإعادتها إلى الحياة ودعم اقتصاداتها المنهارة تحت وطأة قذائف هتلر المدمرة في الحرب الكبرى، التي خرجت منها الولايات المتحدة بلا خدش يذكر، باستثناء المغامرة اليابانية في “بيرل هاربر”، مع تعافي اقتصادها سريعاً باستنزافه للاقتصادات الأخرى، وبإغراقٍ دفع قطاعات التصنيع إلى مضاعفة إنتاجها، وبث المزيد من الانبعاثات التي خنقت الأرض، لتمتلئ خزائن الفيدرالي الأمريكي بالذهب، ويغرق العالم بأوراق تحمل صورة بينجامين فرانكلين، أثقلت الدول الأوروبية والنامية بالديون على حد سواء، ويستعر قلب الأرض، بحرارة ربما لن تترك العالم يحيا لألفيةٍ جديدة.
والآن تصرخ حرائق لوس أنجلوس بفعل عواصف كاسحة، كثورة أطلقتها الأرض في وجه الرئيس المنتخب دونالد ترامب، بعد أن عزم على تكرار انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، مطلقاً جماح التنقيب عن النفط الصخري الأمريكي، بعد أن عرقل خطط التحول الأخضر الأكثر كلفة، في شرّعنة للاعتداء على الأرض، التي تآكل جليدها والتهبت، بفعل المداخن والمخلفات والنفايات المشعة، فالولايات المتحدة تمتلك اقتصاداً بلا قلب، اقتدت به الصين لعقود، رغم أن جرائمها البيئية في العقود الثلاث الماضية، لا توازي 20% مما ارتكبته الولايات المتحدة في حق هذا الكوكب عبر القرنين الماضيين، ليكتب الجشع الأمريكي نهاية هذا العالم يوماً ما، سواء باستنزافه على المدى الطويل مقابل البحث عن كوكب جديد ينتقل إليه المستعمرون الجدد، أو بهدم المعبد فوق الجميع، بصراع نووي يلوح في الأفق، قد يكتب السطر الأخير من تاريخ البشرية.
ولأن الولايات المتحدة لم تحقق ما تصبو إليه من سكن بديل للأرض التي أتلفتها، عملت على أن توازن بين اندفاعها لاستنزاف موارد الأرض، ومحاولة إبقائها على قيد الحياة، ولكن هذا العبث الممنهج واجهته الأرض ككائن حي، يمتلك غريزة الدفاع عن النفس من أجل البقاء، لتبعث بعواصفها وأعاصيرها، كرسائل رفض لسياسات الاستنزاف الأمريكي، لهذا لم تعد الحرائق القريبة تمثل منظرا مبهرا لأثرياء هوليوود، بعد أن طالتهم شظاياها، لتطلق الأرض إنذاراً جديداً وقوياً لمفسديها، في الوقت الذي يستعد ترامب لأكبر حملة تخفيض إنفاق حكومي، لاحتواء ما يراه خسائرا نتجت عن إشعال بايدن للحروب حول العالم، رغم ما حققته جبهات القتال الملتهبة، من مكاسب ارتبطت بمبيعات الأسلحة والغاز المسال، وأذونات الخزانة التي انتعشت بفعل امتصاص الأموال الساخنة من مختلف الأسواق، كغنيمة لحروب الوكالة، استحوذت عليها الولايات المتحدة، بعد أن ضربت العالم بقذائف التضخم، واتخذته كذريعة تمنح الفيدرالي الأمريكي شرعية رفع أسعار الفائدة، لإفلاس البنوك المركزية حول العالم، أو على الأقل التأكيد على فرض هيبة الدولار في مواجهة توسع تكتل “بريكس”، وهي رسائل طالما مررها بايدن بلا مباشرة، ولكن ترامب الأكثر وضوحاً هدد بتدمير اقتصادات الدول التي قد تفكر في التخلي عن الدولار، بعد إظهار بوتين لعملة “بريكس” الوهمية مؤخراً، فترامب رجل مباشر إلى أقصى حد، وفجاجته ومواقفه الشعبوية، تمكنك من قراءته وأنت مستلقٍ على أريكه تتناول قهوتك بأريحيه، دون تحليل سياسي عميق، لقرارات لا تهدف في مجملها إلا لدفع الاقتصاد الأسود للسيطرة على مفاصل العالم.
ورغم أن الاقتصاد طالما قاد السياسة الأمريكية بفعل ضغوط الشركات الكبرى، وتحكمها في قرارات الجالس خلف المكتب البيضاوي للبيت الأبيض، إلا أن جنوح ترامب لسلخ الأرض وتقطيع أوصالها، مع التركيز على الاقتصاد دون غيره من عناصر مؤثرة، يفضح الانتهازية الأمريكية، التي حرصت واشنطن لعقود، أن تغلفها بتوازنات بيئية ودبلوماسية تحت غطاء أممي زائف، يود ترامب تمزيقه الآن، ليكشف عورات بلاده في مقابل مكاسب سريعة، مرتكزاً على قوة عسكرية يلوح بها كعصا، دون أن يقدم جزرة واحدة لدول العالم، والأمريكيون أنفسهم ليسوا بمعزل عن انتهازية ترامب، مع توجهاته الداعمة لأثرياء وول ستريت، وسيليكون فالي، وفتح جحيم التكسير الهيدروليكي لاستخراج النفط الصخري والفحم الحجري، ورفع القيود عن التوسع في صناعة الغاز، مقابل تخفيض مجحف لميزانيات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي في البلاد، ليستعين بإيلون ماسك في جَزرِ ميزانيات الوزارات الخدمية، ليتفرغ الذئب العجوز لمهمة دفع الماكينات الأمريكية إلى العمل بطاقتها القصوى، طمعاً في تحقيق الشركات الكبرى المزيد من المكاسب، لتوفر فرص عمل جديدة للأمريكيين، وتمنح حاكم البيت الأبيض المزيد من الضرائب، ولكنها آمال واهية، ولن تمثل سوى مسكنات مؤقتة لأمراض الاقتصاد المزمنة، مع استهداف خفض التضخم الأمريكي المستعر، إلى نحو 2%، وهو تعهد يقاتل ترامب لتحقيقه بأي ثمن، ولكن الوصول إليه حتى مع تخفيض الميزانية الفيدرالية، سيكلف الولايات المتحدة ديوناً جديدة تستوجب رفع سقف الدين، في سابقة ليست الأولى من نوعها، مع استنزاف النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي حول العالم، لشريحة كبيرة من الناتج القومي الأمريكي.
هي معضلة يسعى ترامب لحلها معتمداً على استراتيجية “أمريكا أولا”، فترامب سيتخلى عن كل وجود عسكري مجاني خارج أراضيه، متمنياً لو استطاع جيشه رفع لافتة “للإيجار”، على صدور جنود المارينز، لتوفير ميزانية مهولة تنفق لإرهاب الدول دون جدوى اقتصادية، أو إعاقة تقدم قوى دولية ولو كانت إقليمية، في مقابل سعي ترامب لتوجيه الجيش الأمريكي نحو تحقيق المصالح الاقتصادية للبلاد، ولو كان بتهديد بنما أو جرينلاند، أو حتى الوعيد الانتخابي لإيران التي تتلاعب بها دولة الاحتلال بالتنسيق مع الرئيس المنتخب، وكل ما سبق يندرج تحت قائمة سياسة رفع سقف التفاوض، التي طالما اتبعها رجال الأعمال في صفقاتهم، ويتبعها ترامب لإرهاب الجميع وحصد المكاسب، أملاً في تخفيض سقف الدين لا رفعه مثل سلفه جو بايدن.
ورغم التشابكات سالفة الذكر، والتي يمكن لترامب التعامل معها والاستفادة من تعقيداتها، إلا أنه لن يستطيع صد انتقام الأرض، أو الضغط على الطبيعة لتغيير مواقفها تجاه بلاده، ولن تخبو الحرائق بانتقادات ترامب لحاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم، لأن الوضع أكثر كارثية من قدرات الولايات المتحدة على إدارة الأزمة، فضربات البرق التي صاحبت الأمطار الغزيرة، أشعلت الحرائق وتولت العواصف نقلها بسرعة 100 ميل في الساعة، ومع الجفاف الناتج عن التغيرات المناخية التهمت النيران ما يزيد عن 260 كيلو متر من غابات كاليفورنيا، وتكبدت الولاية نحو 150 مليار دولار من الخسائر المادية في أقل من أسبوع، وهو ما يقترب من قيمة الخسائر السنوية الناتجة عن تتابع الكوارث الطبيعية خلال العقد الأخير على الولايات المتحدة، والتي تتراوح كلفتها ما بين 120 و200 مليار دولار سنوياً، وهي مبالغ قد تفسد ميزانية ترامب المستقبلية حال تكرارها، خاصةً وأن الأزمة الحالية ستنتقل تداعياتها إليه عقب حفل تنصيبه، فهل يستمر ترامب في خنق الأرض بدفن اتفاقية باريس للمناخ، أم يستمع لإنذار لوس أنجلوس، الذي كتبت الطبيعة كلماته بحروف من نار؟.
اقرأ أيضا للكاتب محمد شكر :
محمد شكر يكتب : نبيل الحلفاوي .. ضمير النجوم وسفير الحقيقة الأكثر تطرفاً للوطن وانحيازاً للإبداع