الأديبة السورية هيام سلوم تكتب : مخاضات عالم جديد …
تصعد سلم الطائرة هذا الإختراع الجميل الذي أوجده الإنسان يغادر بك من سماء إلى سماء ،كعصفور يطير في الأفق ويعزف لحن الحرية حيث العالم يصبح أكثر اتساعاً وجمالاً ، تغيرُ خطواتها وأوجاعها ودموعها في رحلتها التي تقررت بلا تردد ، وهي التي تعلم رغبتها الجامحة في السفر وتغيير الزمان والمكان منذ مدة طويلة ، جلست في مقعدها وبقلبها وطناً تجلى دموعاً وٱهات ، أسندت رأسها على حقيبة أوجاعها وأخذت تنظر لجموع الناس التي تصعد الطائرة بحيرة وقلق وترقب لمستقبل غامض مجهول ، تعبر من أمامها وجوه حزينة يائسة أتعبتها حمولة أثقال تراكمت مع الأيام أخذت تجول بطرفها في كل مكان لم تر ابتسامة في كل تلك الجموع إلا ضحكات أطفال بعمر الثالثة لم يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة ، مع الفجر استرخت اللحظات وتمددت الأسئلة باردة ساجدة على تخوم الذاكرة
لماذا نغيب عن أحبة ألفنا قربهم؟ لماذا نبتعد عن أناس أحببنا جلساتهم وأحاديثهم .؟
لماذا نفارق أرض الوطن؟
لماذا ولماذا ولماذا .؟
أسئلة أخذتها إلى ذاك الزمن الجميل من أيام طفولتها ، وتذكرت أول مرة ذهبت فيها برحلة مدرسية غادرت فيها أسرتها لساعات طويلة تجاوزت ساعات اليوم وقتها كانت بعمر العاشرة كانت أول مرة تتذوق طعم البعد عن حضن أمها رغم أنها لم تخرج خارج حدود الوطن فقط سافرت من محافظة الى محافظة ..
لكنها كانت رحلة أمان برفقة المعلمات بسعادة لا توصف ، خلطة التبولة الأكلة الأهم التي كانت تعدها أيادي المدرسات على صوت الموسيقا والضحكات وحلقات الدبكة ولعب الطميمة وكيف يتجمع التلاميذ لعزف موسيقا الملعقة وهي تطرق فوق صحن من الستالستيل الأصلي ينتظر كل واحد وجبته بفرح ، أما رحلتها الآن فهي رحلة مختلفة بنكهة الخوف والتشتت بنكهة القلق والأرق ..رحلة خارج الوطن مغمسة بالألم ومطرزة بندوب جراح سطرها الغرباء على جسد أمل نهشه الخذلان وأعياه الطغيان، تنظر لمن حولها بعيون شاردة و شفاه باردة . وأرجل مسرعة تستعجل قدرها المجهول .
كان موعد الرحلة متروك لعقارب الحظ والترتيبات الخارجة عن إرادتها ، أسئلة استيقظت بإجابات مطمئنة لمخاض جديد في عالم جديد بسمائه وهوائه وبحره ولغته وتقاليده وشوارعه . تنظر بإطمئنان إلى العالم من حولها ورأسها يستقبل ومضة تلو الأخرى تزيح العتم من دروبها لتتكشف مفاجئات القدر التي زينت سماءهاو أنجبت التفاؤل من رحم اليأس واخضرت الأغصان في بساتينها رغم الصقيع ، فتذكرتْ اللوز بزهره الأبيض الذي يتحدى خشونة البرد في كانون ويزهر.
تذكرتْ وجه ابنها في أول لقاء بعد طول غياب ودموع .أخذها حال من السرور الغافي وضمتها الكلمات إلى صدر ضحكة تشبه فستان طفولتها المتروك لأصابع النسيم ، وهي المجبولة بالصبر والحب ، تعرف كيف تفكر ؟
وكيف تنام على شرفات الحلم و تصحو على ضفاف الجمال ؟
تعرف كيف تسلك معارج الزمن المتعثر إلى شرفات الأفق ؟
تعرف كيف تؤدي صلاتها و تراتيل فجرها ودعائها دون أن يراها أحد .
هي الأنثى التي تسكن الأعماق وتسافر نحو الآفاق كما لو أن لها مأرب في كل جهة تقصدها .كما لو كانت مكلفة من السماء بالحفاظ على التفاؤل و مقدراً لها أن تسأل سؤالاً شغلها وأقلقها
لماذا نغادر الوطن ؟