محمد شكر يكتب : نبيل الحلفاوي .. ضمير النجوم وسفير الحقيقة الأكثر تطرفاً للوطن وانحيازاً للإبداع
بشاعرية تنبع من قلب نبيل، وصوفية نبتت في رحاب “أم العواجز”، واحتمت بدراويشها فارتوت بالرضا، أراه ضميراً أثمر رجلاً تعارفنا عليه جميعا باسم نبيل الحلفاوي، هو بالنسبة لي ضمير النجوم، والقلب الذي لم يمت قط رغم المحن، ذلك القابض على جمر القيم، متدثراً بحياء لا يخلو من بأس، تتسع محبته لتتجاوز نجليه خالد ووليد، وتحتضن جيليهما بأكمله، هذا الجيل الذي احتشد لوداعه، ثم احتشد والجيل الذي سبقه في عزاءه أمس، في تأكيد على قيمته بالنسبة لكثير من المصريين.
بداية نبيل الحلفاوي لم تكن في عصر يمنح فرصاً مجانية لمبدعيه
فلم يكن عزاء نبيل الحلفاوي حكراً على النجوم الذين تدفقوا إليه، بل سبقهم كثير من محبيه في وداع أخير لقبطان قاد سفينته بشرف حتى النهاية، وبضمير فني لم يسبقه إليه أياً من معاصريه، الذين تقدموا الصفوف وأفيشات الأفلام، دون أن يعيرهم انتباهاً، فهو يقود ولا يقاد، ويُطلَب ولا يَطلُب، لهذا لن تجد في مسيرته شبهة تنازل، أو بين أعماله عملاً بلا قيمة فنية، بغض النظر عن اختيارات غير موفقة، نتيجة أخطاء إخراجية لم تنقص من أدائه ذرة، وهو أمر وارد في العملية الإبداعية، مقابل تنازلات قدمها الكثير من معاصريه، تحت ضغط الانتشار، ثم ضغط التواجد، ثم ضغط المنافسة، انتهاءً بالمعارك المقيتة للانفراد بالقمة، وكلها ضغوط لم يجربها الحلفاوي، لأنها لا تتوافق مع نزعته الصوفية، التي دفعت به إلى برجٍ عاجي، قادته إليه تأملاته وآفاقه الرحبة كمثقف مصري، وشاعر، ومفكر انعكست رؤاه على مواقفه كما انعكست على أدواره، وطالما وجد في القيمة الفكرية والنزعة الوطنية، والانحياز إلى البسطاء، كنزاً سعى إليه بجد، بعيداً عن ثقافة السوبر ماركت التي حاصرته شاباً، وثقافة مواقع التواصل الاجتماعي التي طالته في سنواته الأخيرة.
وداع أخير لقبطان قاد سفينته بشرف حتى النهاية .. وملاكما قاتل الحياة بقفازات المحبة
نبيل الحلفاوي لم يعد بالنسبة لي قبطانا، أو ملاكما قاتل الحياة بقفازات المحبة، بل غدا ضميراً لا يموت، تتكشف رسائله الإنسانية والإبداعية، مع تتبع مسيرته التي أعقبت حسم مساره، بالتخلي عن دراسة التجارة التي ألقى سنواتها خلف ظهره، ليلحق بحلمه الذي صاحبه لسنوات، ويختار أن يكون ممثلاً.
شاعر ومثقف مصري .. ومسيرة لم تشهد شبهة تنازل واحدة
وكغيره من العابرين لجسر الموهبة، لم تكن بداية نبيل الحلفاوي الفنية، في عصر يمنح فرصاً مجانية لمبدعيه، فمع خوضه غمار التجربة في بداية سبعينيات القرن الماضي، كانت مصر ما زالت تعاني ويلات الحرب، وتشهد ظرفاً سياسيا واقتصاديا مؤلماً، أضيفت إليه مقاطعة عربية شاملة، مع استمرار المناوشات السياسية والدبلوماسية، التي سبقت وأعقبت توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وهو ما انعكس سلباً على الفن المصري، خاصة السينما، ليواجه الفن السابع موجة من الانحدار، جعلت من المسرح نافذة وحيدة لهذا الشاب النبيل، إلى جانب مشاركات هزيلة في سهرات تلفزيونية ومسلسلات شهدت مروره الخاطف، مع الاحتكار الحكومي للدراما التلفزيونية وقتها.
الحلفاوي أضاف إلى رصيد شخصياته الأسطورية شخصية “المعلا قانون” في مسلسل “غوايش”
وفي العقد الثامن من القرن العشرين، ساءت الأوضاع أكثر، مع انعكاس التأثير السياسي والاجتماعي على الساحة الفنية، وتوجهات سياسات الانفتاح الاستهلاكية، التي دفعت بالسينما دفعاً، لتكون جزءًا من سوبر ماركت كبير، نتيجة انتشار نوعيات من الأفلام التي تعارف عليها كتاب هذه الحقبة بمصطلح “أفلام المقاولات”، وهي نوعية أنتجت من قبل غير المتخصصين، مع اقتحام المقاولين وتجار الميني فاتورة والمهربين لهذه الصناعة، وللأسف فقد اجتذبت هذه النوعية كل من يعمل في الحقل السينمائي، إلا قليلاً ممن رحم ربي، نتيجة لتنامي هذه الموجة من نهايات السبعينيات واستمرارها لنحو عقد أو أقل، أثقلت فيه كاهل السينما المصرية، خاصة أنها بدأت عقب موجة الطيور المهاجرة، وما سببته من فراغ سينمائي، اتاح الفرصة تدريجياً للدفع بأرباح مرحلة الانفتاح إلى أستوديوهات تصوير الأفلام السينمائية، لتتراجع “الصنعة” مقابل الإيرادات، التي سرعان ما تراجعت هي الأخرى، ليتقلص زمن عرض الفيلم في السينمات لأسبوع واحد، بعد أن تركز اهتمام الممولين الجدد للأفلام على بيع أفلامهم بالدولار لا بالجنيه المصري، فبدأوا أكبر عملية تصدير سينمائي للخارج، وأصبحت الأفلام تعرض للحصول على ترخيص الطبع الميكانيكي ثم ترفع من دور العرض ليتم ارسالها على شرائط إلى دول الخليج، ومع تنامي الطلب على هذه النوعيات الرديئة من الأفلام المصرية، بدأ الإنتاج الملاكي لجمهور الفيديو كاسيت في الخليج العربي، واتخذت الموضوعات منحىً مغايراً، يراعي الثقافة القبلية وقيم وعادات الدول المستقبلة لهذه الأفلام، وهي موجة كاسحة لم تجد مقاومة من السينمائيين، باستثناء جبهة قتال واحدة تمثلت في مخرجي الواقعية الجديدة، الذين تحولت تجاربهم إلى بضعة نقاط من النور في ظلام الثمانينيات الدامس، ليجد العديد من الموهوبين ومن بينهم نبيل الحلفاوي في أفلامهم ملجأً لهم، وكذلك في أفلام الجيل الشاب الذي صاحبهم أو لحق بهم، لتنهار أسطورة الفيديو كاست مع دخول عصر السماوات المفتوحة، وينتصر جيل المخرجين الشباب بفعل الاستمرارية، والرهان على السينما الوطنية لا على أموال الخليج.
تجارب الانتشار استغرقت حقبة السبعينيات.. والمسرح القومي نافذة أبرزت طاقاته الفنية
ولأن الوقت لم يكن مناسبا لاستقبال موهبة بحجم وبكارة موهبة نبيل الحلفاوي في السينما، لم يجد أمامه سوى التلفزيون، الذي تحقق داخله سريعاً، بفعل تجارب الانتشار التي استغرقت حقبة السبعينيات بأكملها تقريباً بالمشاركة في عدة مسلسلات تلفزيونية وإذاعية، ولكن عمله في المسرح القومي منذ 1972، الذي التحق به عقب تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1970، أضاف إلى مشروعه الكثير، لأنه رأي فيه النافذة الحقيقية لإبراز طاقاته الفنية، فحرص على أن يوازن بين عمله الحكومي في المسرح القومي، والمشاركة في عروض أخرى، حتى حقبة الثمانينيات التي شهدت تألقاً مسرحياً للحلفاوي، دفع به من الأدوار المساعدة للأدوار الرئيسية، كما في مسرحية “رجل في القلعة” لمحمد أبو العلا السلاموني، التي تصدى لإخراجها سعد أردش عام 1987 على المسرح القومي، وجسد فيها نبيل الحلفاوي شخصية عمر مكرم.
وإلى جانب أعماله الجادة وانحيازه إلى المسرح القومي باعتباره أكبر المسارح العربية وأعرقها، حاول إبراز قدراته الكوميدية، بتصديه لبطولة نص الكاتب لينين الرملي “عفريت لكل مواطن”، لصالح فرقة المسرح الكوميدي والذي حمل توقيع محمد أبو داوود مخرجاً في العام التالي، ولم يستغرقه الامر أكثر من سنوات معدودة، قبل أن يقتنص بطولات مسرحية لتتأخر تحيته على خشبة المسرح للنهاية، بحصوله على دور “المفتي” بطل عرض “طقوس الإشارات والتحولات” للكاتب سعد الله ونوس التي قدمها المخرج حسن الوزير على المسرح القومي، وهو المسرح نفسه الذي شهد تصديه لبطولة رائعة الكاتب ألفريد فرج “الزير سالم”، بتوقيع الفنان حمدي غيث مخرجاً.
حقبة الثمانينيات كانت الأكثر نشاطاً .. و”محمد رسول الله” انطلاقة موازية لانطلاقته المسرحية
حقبة الثمانينيات تليها التسعينات كانت بالنسبة للحلفاوي الأكثر نشاطاً وحراكاً بين روافد الفن المصري، مع تنوع تجاربه ما بين السينما والمسرح والدراما التلفزيونية والإذاعية، في الوقت نفسه قدم تجارباً تلفزيونية أكثر إبرازاً لموهبته، كان في مقدمتها مشاركته في مسلسل “محمد رسول الله” مطلع الثمانينيات، والذي مثل انطلاقة موازية لانطلاقته المسرحية في الدراما التلفزيونية، وفي النصف الثاني من العقد نفسه، أضاف إلى رصيد شخصياته الأسطورية، شخصية “المعلا قانون”، أيقونة مسلسل “غوايش”، كما أضافت حقبة الثمانينيات إلى حصيلته الإبداعية عدد من المشاركات السينمائية المميزة، والتي توجت بحصوله على جائزة أفضل ممثل من الجمعية المصرية لفن السينما عن دوره في فيلم “اغتيال مدرسة” عام 1988.
الحرب المصرية العربية .. “مقتل أميرة”.. مرور عابر في فيلم أثار أزمات دبلوماسية عالمية
وبالعودة للتسلسل الزمني، نجد أن عام 1980، شهد مشاركة استثنائية للحلفاوي في فيلم انحاز إليه العديد من النجوم بوازع وطني، خلال الحرب المصرية العربية، التي تلت توقيع معاهدة كامب ديفيد، والعداء مع مصر، الذي تمثل في مقاطعة موجعة، سرعان ما تحولت إلى حروب إعلامية ودبلوماسية، ساهمت فيها السينما بقذائف قصيرة المدى، منها مشاركة نبيل الحلفاوي في فيلم “مقتل أميرة”، الذي ارتضى الحلفاوي أن يلحق به في مرور عابر، مع خصوصية التجربة التي استهدفت نقد أوضاع المرأة في المملكة العربية، انطلاقاً من واقعة مقتل الأميرة “مشاعل” حداً لاتهامها بارتكاب الفاحشة، وبغض النظر عن نفي أو إثبات سلامة الرواية التي ساقها المخرج أنتوني توماس، في فيلمه الذي أنتج قبل نحو 45 عاما، في عصر أكثر ظلاما من عصرنا هذا، الذي تشهد فيه المملكة تطوراً مجتمعياً شاملاً، فإن الفيلم الذي صورت كثير من مشاهده في مصر، كان انعكاساً لتداعيات المقاطعة العربية التي قادتها الرياض ضد القاهرة، ويمكن اعتبار دعم مصر للفيلم وقتها، والسماح بتصويره على أراضيها بموافقة مباشرة من وزير الإعلام المصري منصور حسن، قصف مصري مضاد بسلاح السينما، ورغم أن الفيلم إنتاج بريطاني، ولكنه شهد مشاركة نخبة من نجوم مصر، في صدارتهم الشاعر المفرط في وطنيته صلاح جاهين، الذي اختير كممثل لكشف الفصل الأخير من مأساة الأميرة قبيل مقتلها، وإضافة لنبيل الحلفاوي، ضم الفيلم أسماء عديدة أبرزها سمير صبري، وعبد الله محمود، وصبري عبد المنعم، وتهاني راشد، ورشدي المهدي ونهير أمين، وأحمد محرز، ومحمد توفيق، بينما تصدرت سوسن بدر بطولة القصة، مع تجسيدها لشخصية الأميرة مشاعل، ليمثل هذا الفيلم أحد أبكر تجارب “الدوكيو دراما”، في وقت لم تحظى فيه هذه النوعية من السينما بانتشار واسع في محيطنا العربي وكثير من دول العالم.
سياسات الانفتاح حولت السينما إلى بضاعة رخيصة في سوبر ماركت يشبه الوطن
وانطلاقاً من هذا الفيلم الذي سبب العديد من الأزمات الدبلوماسية، التي فاقت في تأثيرها أزمة “حياة الماعز”، مع الضجة الإعلامية التي صاحبت عروضه حول العالم، نرى في مسيرة الحلفاوي الكثير من مظاهر الانحياز للوطن، وهو ما لم يقتصر على “الطريق إلى إيلات”، ومشهد ثقب “العسلية” الذي طالما تندر به، مع محبيه من الجيل Z عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فشخصية العقيد محمود لم تكن الأقوى في مسيرته، ولكن يحسب له اجتهاده في الخروج بها بعيداً عن اصطناع أو كلاشيهات سابقة التجهيز، لأن نبيل الحلفاوي لم يقدم دورين متشابهين، حتى عندما دفعه انحيازه للتاريخي والوطني إلى تكرار تجسيده لشخصية الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، في “دموع صاحبة الجلالة”، ثم “أوراق مصرية”، فلن تجده نفس الممثل في العملين، وهذا الانحياز دفعه دفعاً نحو شخصية “نديم” في مسلسل “رأفت الهجان”، التي تأرجحت بينه وبين كرم مطاوع، قبل أن يظفر بها، إضافة إلى أعمال مغرقة في السياسة وانعكاساتها المجتمعية والفكرية، كما في “سوبر ماركت”، و”السفاح”، “والهروب إلى القمة”، و”شبكة الموت”، وأخرى تطرح أفكارا تتوارى خلف دلالات سيميولوجية، كما في “الزينى بركات”، و”الملك فاروق”، و”الزير سالم”، و”طقوس الإشارات والتحولات”، ليستكمل منظومته القيمية التي لا تجنح نحو أصولية أو انغلاق، بل تسعى إلى الانتصار للهوية المصرية، بدور تنويري يبرز القيم الإبداعية، التي تمتع بها نبيل الحلفاوي، ليبقى ضميراً نابضاً رغم رحيله، وسفيرا للحقيقة في عالم ينهشه الزيف.
موضوعات متعلقة :