كُتّاب وآراء

محمد شكر يكتب : دمشق الحرة وسوريا العارية .. السقوط الأخير لحاضرة الخلافة بين جذور القهر وطائفية الثورة

فارق كبير، بين حرية تهدف إلى تحرير وطنٍ من نظام فاشي، وبين مقايضة هذا الوطن، بشعارات الحرية المرفوعة على فوهات الكلاشينكوف، فالمثال الأول حق إنساني طبيعي، لا يحمل مُطالبُ به وزر التفريط في الأرض، ولو روجت الأنظمة الاستبدادية لذلك، لأن ثورته هنا، تهدف إلى إصلاح ما أفسده المستبدون، ولكن ما سبق يتعارض مع المثال الثاني، الذي تجسد بتفاصيله الأكثر إيلاماً في المشهد السوري بتشابكاته السياسية، بعد أن تتابعت انسحابات الجيش السوري في الأيام الأولى من ديسمبر، لتنتشر رائحة صهيو أمريكية في أجواء المنطقة، تكشفت رويداً رويداً ليتبعها مخطط التقسيم الذي ربض في أدراج القوى العظمى لعقود من الزمان، ليستغل العدو الصهيوني صفقة لم تكتمل، بين الأسد ومن افترض فيهم أنهم حلفائه، ويخدعه الجميع ممهدين الطريق لمعارضة وطنية لوثتها ألوية الجولاني، في وقت لم يثق الأسد في حصونه وقواته، وتحضر لقصاص السوريين، بهروبٍ لا لجوء إنساني إلى موسكو، فهو لا يستحق لقب لاجئ، وهو من دفع بملايين السوريين إلى عرض البحر، بعد أن ضاقت بهم أراضيهم المحتلة بفعل جلاديه، ليتحول يوم الثامن من ديسمبر، إلى نقطة فارقة في التاريخ السوري وربما التاريخ العربي.

فدمشق الآن حرة بعد أن غادر الأسد عرينه، ولو كانت السلطة فيها لإرهابيين، وسوريا غدت عارية بعد أن غادرها جيشها، ولو كانت غالبيته من العلويين، ومصر فقدت جيشها الأول على الجبهة الشمالية لعدوها التاريخي، لتقاتل وحدها للذود عن عروبة متآكلة، وأوطان في مهب الريح، فبالأمس استلهم السوريون جمعة النصر محتفلين برحيل الأسد، وفي الغد سيكتشفون أن جذور القهر التي زرعها نظامه الفاشي، ومواجهة العنف بالعنف، ساهمت في صنع الطائفية التي لوثت ثورتهم المجيدة، وألقت بأحرارها في أحضان التنظيمات الإرهابية، التي ساهمت بالإضافة إلى رعونة الأسد الصغير، في تدمير سوريا وتقسيمها إلى دويلات قبلية داخل الدولة الواحدة، وهذا المسار لن ينتهي بإجراء حكومة البشير الانتقالية انتخابات حرة ونزيهة ليحكم السوريين أنفسهم بأنفسهم، إذا كان قائد التحرير كما يصفونه ليس سورياً، بل جاء ليحكم سوريا بتفويض من أكبر التنظيمات الإرهابية في المنطقة، فهل دستور سوريا الجديد سيتخلى عن شرط انتماء المرشح الرئاسي إلى دماء سورية خالصة، وهل تحول الجولاني إلى أحمد الشرع قبيل سقوط دمشق، جعل منه ملاكاً ساقه الله لتحرير السوريين ثم التحليق ليغادر من حيث أتى؟، هي أسئلة عبثية بالطبع، لأن الجميع يدرك إجاباتها، ويعلم تمام العلم، ان المواجهة بين العلويين والسنة والأكراد والدروز، إضافة إلى اليهود السوريين بعد التوغل الإسرائيلي المسكوت عنه من قبل الجولاني/ الشرع، يضع سوريا على فوهة بركان، والانفجار قادم لا محالة، ولكن الأطراف الدولية التي ساهمت في إسقاط سوريا لقمة سائغة للعدو الصهيوني، ما زالت تحرص على التهدئة اللازمة لصياغة صفقات التقسيم، ومناطق النفوذ، وكعكة إعادة الإعمار، وهي المرحلة التي تستوجب ثورة جديدة هدفها ليس القضاء على الأسد، ولكن القضاء على العملاء، والسعي نحو التوحد في مواجهة طائفية مزقت العراق من قبل، وأرادت الولايات المتحدة وظلالها في المنطقة أن تواجه سوريا المصير نفسه.

هروب بشار ليس الفرار الأول لحاكم مستبد، ولكن أن يكون هروبا دون قتال، من قبل شخص مهووس بإراقة الدماء، أمر يسوق العديد من علامات التعجب والاستفهام، خاصة وأن الأسد طفل كبير، تعامل مع سوريا باعتبارها اللعبة التي أهداها إليه والده، فبدأ يبتكر المزيد من الألعاب المشوقة، محولاً السوريين إلى دمىً يحركها حيث يشاء، ثم يطارد هذه الدمى بصواريخه وقذائفه، وعندما أدركت شريحة من بينهم إمكانية الثورة على نظامه، بدأ يطارد من يراهم دمىً بطائراته ودباباته وأسلحته الكيماوية بحماسة طفولية، رغم أنه لم يطلق رصاصة واحدة حتى على الجولان المحتل لا تل أبيب طول فترة حكمه، ولكن الأكيد أن لعبة هذا الطفل المفضلة كانت البراميل المتفجرة، التي أحرقت قرىً ومدناً وقلوباً، لهذا فمن الغريب ألا ينهي الأسد عرضه الختامي بمجزرة أخيرة، وأعتقد أنه خدع بمباركته لمخطط اكتشف متأخراً أنه لن يلعب دوراً فيه، ليرحل غير مأسوف عليه، وتكون مجزرته الأخيرة هي تلك التي ارتكبها في حق الجيش السوري، رغم أن غالبيته من شيعته وأنصاره البعثيين، إلا أن لعبة الخيانة لم تقتصر على طرف دون غيره، فكل من شارك في مخطط التآمر على سوريا خائن، وكل من يهتفون لنصر ممزوج بالخيانة حمقى، وكل من استكمل الطريق الذي سارت فيه “هيئة احتلال الشام” سيتعثر في جثامين رفاقه، وسيمنح إسرائيل راضياً مفاتيح دمشق.

فديموغرافية سوريا تغيرت بالفعل ما بين شرق كردي يلعب لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل بصورة علنية، وبين غرب سني احتلته جماعات إرهابية تدين بالولاء لتركيا مهندس إسقاط نظام الأسد، وبين علويين يتم تصفيتهم ليلاً ورفع شعارات رفض الانتقام نهاراً، بعد أن أصبح من حكموا سوريا لنصف قرن مطاردين، خاصة بعد مغادرة إيران وحرسها الثوري تحت ضغط ضربات جيش الاحتلال، لتقف روسيا وحيدة ومحاصرة في قاعدتيها على شاطئ المتوسط، تحاول إقناع من كانت تقاتله دعماً للأسد، ليبقى لها موضع قدم على شاطئ المتوسط، مع تقارير غربية تشير إلى تحضيرات روسية للانسحاب من سوريا، أما عن دولة الاحتلال، فقد بدأت في تنفيذ جانبها من خطة التقسيم، حتى قبل سقوط نظام الأسد، بعد أن استحوذت على كامل هضبة الجولان ومنطقته العازلة، وامتطت قمة جبل الشيخ، الأكثر شموخاً، والذي يمنحها سيطرة فوقية على سوريا بأكملها ومراقبة دقيقة للبنان وشمال الأردن وأجزاء عديدة من فلسطين المحتلة، إضافة إلى عدة كيلومترات احتلتها على الجانب الآخر من جبل الشيخ، لا بهدف البقاء في هذه المناطق، بل استحوذت عليها كورقة تفاوض يمكن التنازل عنها مع تعالى صيحات الانسحاب من الأراضي السورية، ثم التمسك بالبقاء في جبل الشيخ لتأمين الجولان وما وراءه، وهو مكسب لو تعلمون عظيم، لأن من يمتلك السيطرة على هذا الجبل، يتحكم في أمن الأراضي الشاسعة العابرة للدول والحدود التي يطل عليها، وهو ما يسهم في المزيد من التفوق الإسرائيلي على دويلات سوريا المستقبلية، أو حتى على سوريا الممزقة بفعل حرب أهلية لا نتمناها في السيناريو الثاني، ليبقى السيناريو الثالث والأخير بالرهان على الجبهة العربية التي تقودها مصر، بما تمتلكه من أدوات استخباراتية، وسبل ضغط دبلوماسية، وأوراق لعب حان الوقت لاستخدامها، مع تغير الإدارة الديمقراطية الأكثر ضعفاً في تاريخ الولايات المتحدة، والقدرة على التأثير في المعسكر الغربي بنفس القدرة على التأثير لدى موسكو، نتيجة تشابك العديد من ملفاتها الإقليمية مع القاهرة، فسوريا كانت الغصن الأول في شجرة القومية العربية التي اجتثت من جذورها، وبأيادٍ عربية، ولكنها لم تنفصل عن مصر مطلقاً حتى في أحلك الظروف، ولا أظن أن القاهرة قد تسمح بذلك، مهما تعددت الإغراءات وزادت وتيرة الضغوط، فمصر التي لم تقاتل عسكرياً بعد، تدرك أبعاد المشهد وتشابكاته النوعية، وتسعى لتعديل كفة التوازنات الإقليمية، بما يحفظ المصالح العربية، بلا أيادٍ تمتد إليها، أو تعينها في مهمتها القومية، التي تصدت لها وحيدة دون النضال بشعارات جوفاء، لتعمل على أن يكون لها دورا محوريا في سوريا ومناطق الصراع العربي العربي والعربي الإسرائيلي، متسلحةً بإيمان راسخ بعروبة، لا تجد بين العرب من ينتصر لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى