الأديبة السورية هيام سلوم تكتب : غراميات في باب توما ..!
مع مرور السنين وتعدد محطات الحياة وتبدل السياسات العامة والملفات الاجتماعية ما زالت دمشق تستحوذ على عقلي الواعي والباطن ، حيث لا أمر بتلك المحطات إلا وقد انتشلني طائر الحنين وأخذني بسفرة الى تلك المدينة السندبادية التي لفها التاريخ ولم يترك لغيرها من الوصف شيء .
يقول ياقوت الحموي: (ما وصِفت الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله).
دمشق الحضارة والتاريخ ، دمشق الفيحاء والكبرياء ،دمشق ميزان العرب و محطات طريق الحرير، دمشق بوصلة القوافل إلى أسيا الصغرى وفارس ومصر ، دمشق موطن الأدباء ومراقد القادة والأنبياء والرحالة والفلاسفة والعلماء.
تغزل بها الشعراء وغنوا لها.. إنها قيثارة الذكريات.
منذ طفولتي أحببتها وكان لنا معاً حكايا انحفرت وشماً على أطراف جسدها الممتد على سهول غوطتها وقاسيونها الذي ما زال يرفع راية النصر المؤزر برغم حصار قيصر.
مازالت الدهشة تنتابني من خارطة حسنها التي تخبرني أن دمشق ما زالت بخير صبية فاتنة بقدٍ مياسٍ لم تهرم ولم تثنيها طعنات الغدر ولم تبرح مكانها رغم أنها أشعلتْ ساحات العالم بأكمله.
كنت قد اعتدت كلما نفذت طاقتي أن أسافر إلى ربوعها فهي بالنسبة لي واحة للروح والفكر .
باب توما أحد محطاتي الأثيرة على نفسي.
هناك حيث انتظرت موعداً بشغف مع صديقة حضنها يشبه حضن أمي لم نلتق منذ زمن تواعدنا في نفس المكان الذي جلسنا فيه أول مرة منذ عشرين عاماّ كان اللقاءً بطعم العسل انسكبت الكلمات ، وتداخلت نكهات الحوار حلوها بمرها بعد أن غدر الأوباش بزوجها واستشهد ابنها في “جوبر ” بقصف لمنزلهم بأعجوبة نجت مع طفلة بعمر السابعة،جلسنا على نفس الطاولة التي قصدناها منذ أول لقاء لنا في دمشق.
كل شيء تغير معالم الرصيف ومدخل المكان والكرسي وجبات الطعام ونكهة الأكل وفنجان القهوة والنادل ، أما صديقتي فكانت كنبيذ ٍ عتقته السنين وزادت حلاوته تركنا باب البوح مفتوحاً على مصراعيه فكانت القصة تجر أذيال القصة ، تلف كل ملفات الحياة وما اكتنفت من جمال الحاضر والماضي والمستقبل بكل مواعيده المنتظرة ورؤاه الحالمة وأمنياته الشاردة.
طالت الجلسة ولم نشعر بالزمن الذي مرّ سريعاً كلمح البصر ترافقنا بخطى يملؤها الحب والصدق لعلاقة عميقة كجذوز السنديان ودعتها بعد أن قبلتني بصوت مبحوح غصَّ بالدمع وقالت وهي تشد على يديَّ لا تتأخري عليّ ياهيام !
في كل مرة أزور دمشق تقدم لي باقات ورد على طبق المواعيد فأبلغها السلام من كورنيش جبلة واللاذقية وطرطوس وحلب وحماه وحمص من كل شبر في سوريتي.
كل الدروب يا دمشق تأخذني إليك من نبع الفيجة حتى صنين وبردى تحكي لنا قصص المراقد والمقدسات حكايا جدتي زينب ورقية فأستعيد ذاكرتي وأسمع تراتيل صلاة ودعاء في كنائسها وجامعها الأموي الذي يذكرني بفارس الخوري عندما حضر خطبة يوم الجمعة في الجامع وصعد المنبر وقال بأعلى صوته أنا المسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله فحمله المصلون على الأعناق.
وفي إحدى عباراته الجميلة التي لن تفارق مخيلة السوريين عندما حضر اجتماعاً في الأمم المتحدة لرفع الانتداب الفرنسي عن سوريا ،جلس الخوري في المقعد المخصص للمندوب الفرنسي وقد وجد الخوري في مقعده طلب منه أن يغادره لكن الخوري بقي غير مكترثاً به مستمر في النظر إلى ساعته مردداً بصوت عال تسعة عشر دقيقة ، عشرون دقيقة فهاج المندوب الفرنسي وحاول التهجم على فارس الخوري ، ظل الخوري ينظر إلى ساعته و بقي في مقعد المندوب متجاهلاً وجوده حتى الدقيقة الخامسة والعشرين ، هنا وضع الخوري ساعته بجيبه ووقف مخاطباً المندوب الفرنسي بصوت عال يسمعه كل من في القاعة : (جلستُ على مقعدك خمساً وعشرين دقيقة فكدت تقتلني غضباً وخنقاً وقد احتملتْ سورية سفالة جنودكم خمساً وعشرين سنة وقد آن لها أن تستقل ) .
عبارة خلدها التاريخ السياسي وبعدها حصلت سورية على استقلالها.
دمشق الموقف والقامة التي لا تنحني .. كلما أطلت الغياب عنها تعاتبني فأهرع لعناقها تفتح لي ذراعيها وتأخذني إلى سكنها وسكينتها إلى الميدان والصالحية والقيمرية والحميدية وأبو رمانة وباب توما والحمراء إلى باب شرقي ومدحت باشا إلى عالمها الفسيح.
أستجمع قوتي بحضنها وأغفو على حلم البقاء وأصحو على موعد جديد ولقاء حبيب من نوع آخر.