يوسف عبداللطيف يكتب: كيف أضعنا عيد الجهاد وطمسنا تاريخ نضالنا العظيم
في الذكرى الـ106 لعيد الجهاد، تبرز أمامنا حقيقة مروعة: لقد سمحنا لتاريخنا الأكثر شرفًا وتحديًا أن يُدفن في غياهب النسيان. عيد الجهاد لم يكن يومًا عابرًا في رزنامة الأحداث، بل كان لحظة فارقة جسدت الإرادة الصلبة للشعب المصري في مواجهة الاستعمار البريطاني. ورغم كل التضحيات التي قدمها الشعب في سبيل حريته، تم إلغاء الاحتفال بهذا اليوم العظيم في عام 1952، وكأننا اخترنا طمس ذاكرة نضالنا وكبريائنا، ليبقى عيد الجهاد جثة هامدة في تاريخ مهمل.
في 13 نوفمبر 1918، عندما تقدم سعد زغلول ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي بطلبهم الجريء للمعتمد البريطاني، لم يكن الهدف مجرد حضور مؤتمر دولي، بل كان محاولة لاستعادة الكرامة الوطنية. كان هذا الفعل في حد ذاته تحديًا صريحًا لأحكام الاحتلال وقوانينه القمعية. الرد البريطاني برفض الطلب وإهانة الزعماء المصريين بإخبارهم أنهم لا يمثلون الشعب، كان بمثابة إطلاق رصاصة غضب في قلوب المصريين. الشعب لم يقبل هذه الإهانة، بل اندلعت شرارة الثورة الشعبية، وبدأ الجميع في جمع التوكيلات لتفويض سعد زغلول ورفاقه للسفر إلى باريس وعرض قضية استقلال مصر.
هذا اليوم لم يكن مجرد نقطة تحول، بل كان انطلاقة لثورة 1919 التي قلبت موازين القوى في مصر، وأسست لفكرة أن الاستقلال لا يُوهب بل يُنتزع. ومع ذلك، فإن هذا اليوم، الذي كان من المفترض أن يبقى محفورًا في وجداننا، تم إلغاؤه من الأجندة الوطنية وكأن شيئًا لم يكن. كيف يمكن لأمة أن تنسى يومًا مثل هذا، حيث تجمعت كل فئات الشعب من أجل هدف واحد: طرد المحتل واستعادة السيادة؟ كيف أمكننا ببساطة أن نمحو عيد الجهاد من ذاكرتنا وكأنه لم يحدث؟
إن إلغاء عيد الجهاد بعد ثورة 1952 لم يكن مجرد خطأ، بل جريمة بحق التاريخ والشعب. نحن نتحدث عن يوم كان رمزًا لمصر الحقيقية، مصر المقاومة، مصر التي لا تنحني. هذا اليوم لم يكن مجرد احتفال تقليدي، بل كان تذكيرًا بأن كل إنجاز سياسي، كل خطوة نحو الحرية، كانت نتيجة نضال مرير وتضحيات جسيمة. ومع ذلك، اختارت السلطات بعد 1952 أن تطوي هذا اليوم تحت السجادة، وكأن التاريخ يمكن أن يُمحى بقرار سياسي.
لقد كان الاحتفال بعيد الجهاد يحمل في طياته رسالة قوية: الحرية ليست هبة تُمنح، بل هي حق يُنتزع بالدم والعرق. كان الشعب المصري يحتفل بهذا اليوم بزيارة ضريح سعد زغلول، بوضع الزهور والخطب التي كانت تلهب مشاعر الوطنية. لكن بإلغاء هذا اليوم، كأننا اخترنا دفن هذا النضال وطمس تلك التضحيات. كيف يمكن لمصر أن تزدهر إذا كانت قد نسيت مصدر حريتها الحقيقي؟
إن ما حدث في 13 نوفمبر 1918 كان خطوة أولى في مسيرة الاستقلال التي لم تكتمل إلا بعد نضال طويل، انتهى بإعلان بريطانيا استقلال مصر في 1922، وصياغة دستور 1923. ولكن الأهم من كل هذا هو كيف قام المصريون في ذلك اليوم بجمع التوكيلات من كل أنحاء البلاد، في حركة شعبية لم يسبق لها مثيل، لتفويض سعد زغلول بالسعي نحو الاستقلال. لقد كان هذا الفعل الشعبي الضخم بمثابة رسالة قوية للعالم وللمحتل: المصريون يريدون حريتهم، ولن يتراجعوا عنها.
لكن ما يثير الغضب هو أنه بعد كل هذا النضال، وبعد أن حقق المصريون استقلالهم، اختار النظام الذي جاء بعد 1952 أن يمحو هذه الذاكرة، وكأن ما قدمه سعد زغلول ورفاقه والشعب المصري بأكمله لا يستحق أن يُذكر. هل يعقل أن نمحو من تاريخنا يومًا كان يجسد نضالنا من أجل الحرية؟ هل يمكن أن ننسى كيف وقفت مصر بأكملها، من الفلاحين إلى المثقفين، متحدين ضد الاحتلال البريطاني؟
إن طمس عيد الجهاد هو طمس لجزء جوهري من هويتنا كأمة. هذا اليوم لم يكن مجرد ذكرى، بل كان رمزًا لاستقلالنا الفعلي، قبل أن يتحول إلى استقلال شكلي بعد 1952. بإلغاء هذا اليوم، تم إلغاء جزء من روح المقاومة المصرية. وكأننا نعلن، بصمتنا، أننا لم نعد بحاجة لتذكر نضالنا، وأن الحرية التي نتمتع بها اليوم ليست نتيجة تلك التضحيات الجسيمة.
لقد آن الأوان لإعادة إحياء عيد الجهاد في قلوبنا ووعينا الجماعي. لا يمكن أن نستمر في طمس تاريخنا بهذه الطريقة المهينة. نحن بحاجة لتذكير أنفسنا والأجيال القادمة بأن الاستقلال لم يكن مجرد شعار سياسي، بل كان نتيجة نضال وكفاح لا يمكن أن يُمحى بجرة قلم. إن إلغاء هذا اليوم كان بمثابة خيانة لروح المقاومة المصرية، ولا يمكن أن نستمر في هذه الخيانة.
عيد الجهاد يجب أن يعود، ليس كاحتفال رمزي فحسب، بل كتجديد للعهد مع تاريخنا ونضالنا. لأننا إذا نسينا هذا اليوم، فإننا ننسى جوهر هويتنا كأمة. إن الأجيال التي تأتي بعدنا بحاجة إلى أن تعرف أن ما نتمتع به اليوم من حرية لم يكن ليأتي إلا بفضل أولئك الذين وقفوا في وجه المحتل وقالوا “كفى”.